التعمير البشري بمنطقة قالمة من خلال الشواهد الأثرية
(منطقة الركنية انموذجا)
أ.د. عبد المالك سلاطـنـيـة
جامعة08 ماي 1945- قالمة
توطئــــــــة:
إن الدارس لتاريخ الجزائر القديم تستوقفه العديد من المحطات التاريخية، التي تركت بصماتها الظاهرة، والتي ترجع إلى مختلف المراحل من الشواهد التاريخية والمعالم الأثرية.
- التعريف بموقع الركنية:
يقع موقع الركنيةRoknia بضواحي بلدية الركنية، شمال غرب مقر ولاية قالمة "ملكا القديمة"، على مسافة 35كلم. وهي ولاية حدودية مع ولاية سكيكدة"روسيكادا "، لا تبعد عن مدينة عنابة الحالية "هيبون القديمة" الا بمسافة تقدر بحوالي 60كلم. كما أنها ممر هام نحو قسنطينة "سيرتا" عاصمة المملكة النوميدية.
شهدت هذه المنطقة استقرار باكرا للإنسان بها، وأهم مواقعها "المقبرة الميغاليثية" التي توجد بها "القبور المنضدية" و"قبور الحوانيت". تقع "المقبرة الميغاليثية" شمال غرب مدينة قالمة1 على بعد 35 كلم شمال حمام ادباغ (حمام المسخوطين سابقا)، على مسافة 12 كلم2.
ويمكن الوصول إلى المقبرة من طريق ثاني، وهو الذي يربط عزابة بالركنية على مسافة 45 كلم.(انظر الشكل رقم 1و2). يحدها من الناحية الشرقية "جبل أدباغ" الذي يصل ارتفاعه إلى 1050 متر والذي يتربع على مساحة تقدر بـــــــ 2925 هكتار.
ومن الناحية الجنوبية "مشتة السطحة" و"وادي ادواخة"، ومن الناحية الشمالية قرية الركنية. أما من الناحية الغربية فيحدها كل من "جبل اشعايرية" المسمى "جبل المنشار " و"جبل لقرار"، الذي يصل ارتفاعه إلي 1070 متر وهو بذلك يعد أعلى قمة في المنطقة.
أما إذا عدنا إلي الخريطتين الطبوغرافيتين ذات السلم 1 / 50000 و 1/ 25000، ففي الأولى تقع المقبرة ما بين خطي 904 و905 شمالا جنوبا. وخطي 366- 368 شرقا غرب، أما في الثانية فنجدها بين خطي 339- 342 شمالا جنوبا، و4042- 4044 شرق غربا.
تـمتد الـمقبرة على مساحة تقدر بـــــــ3 كلم طولا. وما بين700 إلى 800 متر عرضا بمحاذاة أراضى السطحة1.
ويرى بورقينا: "أن أسباب اختيار هذا الموقع مكانا أبديا للموتى الى كون "الركنية كانت عبارة عن حمام طفئ وبنى القدماء من فوقه معالم جنائزية...معتقدين بأنها تكون تحت حماية جهنمية...، وفضلوا توجيه المعالم الجنائزية نحو أفران كانت مشتعلة تتسرب منها الحرارة"2.
ويبدو من خلال الدراسة التي قام بها "بورقينا" أنه ربط بين الدراسة الجيولوجية لحمام المسخوطين والركنية، نظرا لوجود العديد من الخصائص المشتركة في البنية الجيولوجية. من حيث نشأة وتكون الصخور الرسوبية. ويبدو أن اختيار هذا الموقع كان نتيجة عدة عوامل يمكن حصرها في النقاط التالية:
- طبيعة المنطقة الصخرية التي وفرت المادة الأولية لإنجاز القبور، دون عناء البحث عنها في أماكن أخرى. وكذا هشاشة بنيتها فهي تتكون أساسا من صخور الترافرتين ، والتي يسهل على قلاعي الصخور التحكم فيها دون مشقة.
- تواجد المقبرة بمحاذاة أراضي خصبة صالحة للزراعة وهي أراضى "السطحة". فقد تكون هذه الأخيرة قد زرعت في فترات معينة من قبل بناة المقابر، هذا بالنظر إلى الاستقرار البشري الضخم، الذي كان بالمنطقة من حيث حجم وعدد القبور التي تزيد على 3000 قبر.
- توفر الينابيع المائية، التي لها دورا هاما في الاستقرار. والتي من أهمها ينبوع عين القصر الذي يعرف "بعين لزة" وكذا "عين ديرا". ويقع على حافة الوادي بالقرب من المقبرة. ومنه فإن اختيار هذا الموقع يكون قد خضع بالضرورة لعوامل عدة متداخلة، بين ما توفره الطبيعة وحاجات الإنسان في ذلك الوقت.
تحتوي "المقبرة الميغاليثية" بالركنية على أكثر من 3000 قبر من نوع الدولمن، مختلفة الأحجام والأنماط. هذا في الوقت الذي نجد فيه عددا كبيرا من هذه القبور قد تحطم بفعل عوامل عديدة، كما هو الحال بالنسبة لموقع "قلعة بوعطفان" وموقع "بونوارة" [1]
الشكل رقم 1. موقع الركنية بالنسبة للشرق الجزائرى وحوض المتوسط
شكل رقم 2. موقع الركنية على وادى ركنية شمال غرب قالمة.
- التركيب الجيولوجي للموقع:
لقد سهلت تركيبة المنطقة الجيولوجية على الإنسان الذي عاش واستقر فيها، عملية قطع الكتل الحجرية. التي تعتبر المادة الأساسية لإنجاز قبور "الدولمن". وكذا حفر "الحوانيت" على الواجهة المقابلة لجبل "اشعايرية"، والمحاذية لوادي الركنية. وقد استعمل في إنجاز الصروح الجنائزية نوعين من الصخور إحداها رسوبية، وهي الغالبة الاستعمال والأخرى نارية وهي نادرة بالموقع.
أ. الصخور الرسوبية:
تكون هذا النوع من الصخور نتيجة عمليات الترسب وتعرف بالصخور الطباقية[2]. وهي عبارة عن مواد متفتتة سواء من صخور نارية أو رواسب كيميائية وعضوية[3]. والحجارة بموقع الركنية تأتي من المكان نفسه.
وهي عبارة عن صخور مسامية تتجمع من الترسبات حول الينابيع. مما يسهل على قلاعي الحجارة استخراجها دون عناء1. وصخور ترافرتين Travartin، هي صخور مشابهة "للتوفنه" سهلة الانكسار[4] ، هذا ما يسر إنجاز عدد كبير من القبور عبر حقبات طويلة من الزمن.
ولقد قام "بورقينا" بإجراء تحاليل على هذا النوع من الصخور ( صخور الترافرتين) فتحصل على النتائج التالية :
المـادة |
النسبــة |
كاربونات الجير والمنغنيز |
% 95,21 |
كاربونات السنرونتيان |
% 0,24 |
اكسيد الحديد |
% 0,60 |
سلفات الجير كاربونات الحديد |
% 2,60 |
مواد أخرى |
% 1,35[5] |
صورة رقم 3: الصخور الرسوبية بموقع ركنية
ب. الصخور النارية :
كان استعمالها نادرا جدا في المقبرة، بحيث كل قبور "الدولمن" استخدم في إنجازها صخور الترافرتين الهشة. عدا قبر واحد احتوى في تركيبته على صخور نارية. والتي قد يكون مصدرها "جبل ادباغ" او "أشعايرية". لكن المعاينة الميدانية أثبتت التطابق التام بين هذا النوع من الصخور، المستخدم في إنجاز قبر مزدوج الغرفة. وصخور "جبل ادباغ"[6] . هذا، مع العلم أن الصخور النارية تتميز بصلابتها، وصمودها في وجه العوامل الطبيعية القاسية.
ج. المنـاخ :
يسود المنطقة مناخ البحر المتوسط، الذي يّتّميز بشتائه المعتدل وصيفه الحار، ويصل التساقط أقصاه خلال شهر جانفي، يبلغ 111 ملم[7]. نظرا لقرب المنطقة من الساحل، وبالتالي تعرضها للتيارات الهوائية الدافئة شتاء، والمعتدلة صيفا. وهي تبعد عن ساحل سكيكدة "روسيكاد القديمة"، بحوالي 60 كلم وعن عنابة(بونة) بـــــــ 80 كلم. وعليه فالركنية تقع بين درجتي عرض °36 و°37 على خطوط العرض الشمالية، في مركز رباعي، بين عنابة وسكيكدة في الشمال القسنطيني، وسوق أهراس في الجنوب. وبالتالي فإن هذه المنطقة تكتسي نظاما مناخيا شبيها بذلك الموجود في مجموع هذه المدن[8].
ومن خلال الدراسات التي تمت حول المنطقة، فإن مناخها شهد تغيرات جمة منذ عصور ما قبل التاريخ. أين كان متوسط الحرارة لا يتجاوز 10 درجات[9].
ويرى "بورقينا" أن مناخ الركنية كان ساخنا نظرا لتواجد حمام ضخم بها، إلا أنّه اختفى وصار المناخ باردا. كما كانت تتميز المنطقة بغطاء من الغابات نظرا لمناخها الرطب المتوسط الحرارة. ومع مرور الزمن أصبح المناخ شيئا فشيئا جافا، والغابات التي كانت تستقبل الرطوبة بدأت تختفي تدريجيا.[10]
ويقدر المعدل المناخي لمنطقة الركنية ب °17,5 وب 144 يوم أمطار من 365 يوم. وإننا عندما نقارن الطبقات العليا "للميغاليث" بتلك الموجودة في أعالي "جبل طاية[11] Taya"، فإننا نلاحظ بأن تلك الموجودة في الركنية هي الأكثر انهيارا، والأقل سمكا ، والأكثر خشونة. وهذه الخصائص ترجع أساسا إلى اختلاف الارتفاع. فمقبرة الركنية تقع على علو430 متر بينما يصل جبل طاية إلي 1200 متر[12].
اعتمد "بورقينا" في دراسته التغيرات المناخية لمنطقة الركنية على القواقع Holix. والملاحظ أن هذه التغيرات المناخية قد انعكست على الوجه الحقيقي للمقبرة. فكثيرا من قبور "الدولمن" انهارت وتشققت.
ويمكن القول أنه غير شكلها نسبيا نتيجة العوامل الطبيعية والمناخية من رياح وحرارة ومطر ورطوبة. هذه العناصر المناخية التي لا يمكن لنا، بأي حال من الأحوال، أن نهمل أثرها في بنية الموقع، وتركيبة كل معلم. تبين الجداول التالية لما مدى الاختلاف الواضح بين سنوات 1987 - 9931- 1994 ، من حيث التغيرات المناخية الخاصة بالمطر والحرارة والرطوبة والتبخر والرياح .
هذا مع الإشارة أن العوامل المناخية كانت خلال فجر التاريخ وبعده مناسبة للاستقرار البشري. و ما ساعد على إنجاز مقبرة ضخمة تكون قد استغلت لقرون طويلة من الزمن. مع الملاحظة ان الإنسان استغل الجغرافيا وصخرها لخدمة استقراره بالمنطقة.
- قبور الدولمن )القبور المنضدية):
تنتشر قبور "الدولمن" بموقع الركنية عند منحدر واديها بصورة غير منتظمة. حيث إذا انطلقنا من "مشتة السطحة" تبعا لخط توزيع "الدولمن" نحو نهايته، نلاحظ بأن المقبرة تبدأ ببعض القبور الصغيرة الحجم، ثم تتطور لتصبح القبور أكثر تطورا وأضخم من حيث نوعية الصخور المستعملة.
يرى "كامبس" أن "الدولمن" الشمال الإفريقية ذات أبعاد صغيرة، وهي في الأصل مخصصة للدفن الفردي1. يضيق الموقع في الناحية الجنوبية ويبدأ في الاتساع حيث تنحصر الأراضي الزراعية، وتزداد المقبرة أتساعا كلما اتجهنا شمالا. فتمثل كل المنحدر الجبلي، وعليه فإنه يمكن ان نقف عند الملاحظات التالية:
- تطور قبور الدولمن من حيث الحجم والشكل كلما اتجهنا من الجنوب نحو الشمال.
- هذا التطور الحضاري يدفعنا إلى الاعتقاد بأنّ المنطقة الجنوبية خصصت للدفن.
- تزامن هذا التطور مع تطور "قبور الحوانيت" الّتي تحتوي عليها مقبرة الركنية.
- تتواصل قبور الركنية في شكل خطوط مستمرة، مما يدفعنا إلى القول بأن هذه القبور المتتابعة في خط واحد قد تكون لنفس العائلة التّي كانت تدفن موتاها بالتعاقب2.
يختلف حجم "دولمن" الركنية من قبر لآخر، وهي تتراوح عموما ما بين 0,80 م إلى 3 م طولا. و55 .0 إلى 1,70م عرضا. فهي بذلك أصغر بكثير من "دولمن" "قلعة بوعطفان" التي تتّميز بالضخامة وكبر حجمها.
صورة رقم 4: منظر جوي للموقع يوضح انتشار قبور الدولمن والحوانيت بالموقع
4. قبور الـحـوانـيـت:
لم تقتصر المدافن المغربية على الأنواع السالفة الذكر، بل شهدت نوعا آخر من المدافن التي تعرف غالبا بالحوانيت. Haouanets. و "الحوانيت" (جمع، مفردها حانوت Hanout). يطلق هذا المصطلح على تلك القبور المحفورة في الصخور وواجهات المرتفعات الجبلية، وهي ذات أشكال متعددة تختلف من موقع لأخر، تتميز بمداخلها الضيقة.
يرى بربريجر Berbrugger : " أن سكان الركنية هم أول من أطلق هذه التسمية على هذا النوع من القبور" [i].كما أشار "جزيل" إلى الحوانيت بأنها ذات حجم صغير مداخلها شبيهة بالنوافذ2 5.
يصف حسين فنطر الحوانيت: " الحانوت تسمية اصطلاحية تشير إلى قبور منقورة أفقيا، في جوانب الهضاب والصخور الكبيرة"36.
ويعرفها إبراهيمي: " أنها عبارة عن حجر مكعبة الشكل محفورة في الصخر وتغلق بواسطة ألواح حجرية مركبة رأسيا كما توحي الحّزات المحفورة في حوا ف الفتحة4".
كما يتركب "الحانوت" من عنصر واحد أو عنصرين، وقد تقدم الغرفة بهو أو معبر صغير، وتكون الحوانيت متتابعة عموديا أو أفقيا.
ويجمع أغلب الدارسين على أن "الحوانيت" تغلق من الخارج بواسطة بلاطة معدة خصيصا للغلق، ويمكن التأكد من ذلك في حوانيت مدينة تبسة .1 ففي "حوانيت" مدينة الركنية ، صقلت حوافها بدقة، مما يسمح بوضع البلاطة في شكل منسجم مع المدخل. كما تفتقد البلاطات بالمواقع بسبب ضياعها بعد عملية فتح "الحوانيت"، فضلا عن ذلك فإن ما يميز " الحوانيت" خلوها من الرسومات عدا ما عثر عليه في مواقع قليلة..
ويرى حسين فنطر : أن المدافن اللوبية2 شديدة التنوع وهي تختلف عن بعضها البعض من حيث الفترة التاريخية التي ظهرت بها.
وقبور "الحوانيت" أحد نماذج المدافن الحجرية المنتشرة في حوض المتوسط، وهي تختلف عن باقي المدافن الأخرى من حيث شكلها وطريقة حفرها في الصخور والمرتفعات الجبلية سواء بطريقة جماعية أو منعزلة.
ويرى جزيل:" بأن مداخل هذه القبور المنقورة في الصخور صغيرة شبيهة بالنوافذ"3 حيث تكون في الغالب عمودية لا يزيد ارتفاعها عن 0,80 مترا.4 عدا بعض الحالات التي نجدها كما هو الحال في الركنية أين تفوق المتر الواحد.
مع الإشارة إلى أن هناك خلطا بين "قبور الدولمن" و"الحوانيت"، حيث يذكر شاربونو Cherbonneau أن "الدولمن" الكبيرة "بسيجوس" كان يطلق عليها من قبل السكان المحليين "الحوانيت"5.
كما عرفت الحوانيت باسم بيت الحجار "Bit-Elhadjar " في منطقة على الحدود التونسية جنوب مدينة الطارف الجزائرية 6.
بعض مواقع مقابر الحوانيت |
||
الجزائر |
تونس |
المغرب الأقصى |
الركنية بوشقوف(دفيفي)1 تيبازة واد ارهيو الشلف بجاية |
بيلارجيا طبرقة جربة الحاروري جبل بهاليل |
تازة ازمور |
ويعد موقع الركنية من المواقع القليلة التي جمعت بين صنفين من المدافن وهي "قبور الدولمن"، و"قبور الحوانيت". وهذا التواجد الكبير لها بالموقع يدفع إلى ترسيخ فكرة الاستقرار البشري الطويل المدى بهذه المنطقة. يرى غانم محمد الصغير : "أن توفر المدافن الحجرية بكثرة في المنطقة الممتدة من مكثر شرقا وحتى منطقة سيرتا غربا يدل على الكثافة السكانية في المنطقة"2. والجدير بالذكر أن عدد حوانيت الركنية يتجاوز300 حانوت بكل الأنواع المعروفة في الموقع.
يرى بورقينا أن حوانيت الركنية استعملت في بادئ الأمر للدفن وبعد قرون صارت أماكن للعيش3، هذا في الوقت الذي يطرح فيه الضابط جاكو Jacquot استفسارا حول طبيعة المساكن التي استقر فيها بناة المقابر، هل عبارة عن خيم وأكواخ؟4
وفي هذا الشأن يرى الضابط دبوسردون De Bosredon بأن الحوانيت لم تكن خاصة بالسكن لأن أبعادها ضيقة، فساكنوها يتحتم عليهم أن يتركوها مفتوحة ليلا ونهارا لأنها لا تغلق إلا من الخارج5، كما تتميز "حوانيت الركنية" بأنها عميقة نسبيا مقارنة ببعض "حوانيت قاسطل" .
5. كرنولوجية الموقع:
يوجد اختلاف وتضارب في تحديد الفترة الزمنية "بدوقة" لإنشاء هذه المقبرة، ويرى "بورقينا" الذي قام بدراسة الموقع في القرن الماضي، اعتمادا على دراسة القواقع بأنّ "دولمن" الركنية تعود إلى 2200 ق م[13].
أما بروكا Broca فإنه يرجعها إلى القرن 14 ق م[14] ،هذا ويري ريجاس بأنّ الاعتماد على القواقع في تحديد عمر المقابر طريقة غير مجدية في تحديد تاريخ دقيق لها. خاصة بعد تطور العلوم واكتشاف طرق علمية أكثر دقة في تحديد عمر الآثار.
وعليه فإنه يصعب علينا تحديد فترة زمنية محددة لعمر "دولمن" الركنية، والملاحظ أن شكل وطبيعة موقعها وكذا الدراسات التي تمت حول الأثاث الجنائزي، تعكس قدم الموقع. وكذا الفترة الزمنية الطويلة التي استغل فيها من قبل السكان، كما قد يكون ممتدا الى العهد الروماني ويصنف موقع الركنية ضمن المواقع الليبية البونية.
6. التنقيـبات الأثرية والدراسات التاريخية:
بعد الاحتلال الفرنسي للجزائر سنة 1830 وبداية التوسع، بدأت حّمى البحث عن الآثار وتاريخ الأجناس. فبرزت معهما عمليات التنقيب ، التّي كانت في معظمها تفتقر إلى القواعد والشروط العلمية والموضوعية، التي تمّيز عالم الآثار. خاصة فأستغل بذلك العسكري والهاوي والمغامر والباحث عن الكنوز تلك الأوضاع، وتمخضت عن ذلك عمليات تنقيب أهم ما يميزها الفوضى والعشوائية. ولم تشذ "المقبرة الميغاليثية" بالركنية مثل غيرها من تنقيبات الهواة والعسكر بّين والباحثين عن الكنوز[15]
تمت الحفريات الأولى باكرا على يد بربرجر Berbrugger سنة1864 ، ولوتورنو Letourneux وشميط Schmit عام 1865 . غير أن أهم الحفريات هي تلك التّي قام بها بورقينا Bourguignat وفيدهارب Faidherbe سنة 1867. وكذا حفرية الكي Alquier سنة 1932 . التي لم تترك لنا أي شيء مكتوب عدا ما يوجد "بمتحف الباردو" من أواني، وتقدر بـ 50 آنية فخارية، و60 قطعة من نوع "المساقل".
ﺃ. الحفريات الأثرية:
- حفرية بورقينا:
لقد كان بورقينا أحد المهتمين بالآثار فقد قام بالعديد من الأعمال، أين قــام بحفر بعض "التيملوس" بالصحراء[16]. كما قام بحفريات أخرى بتونس[17]. ولمساعدة الجنرال فيدهارب القائد العسكري لمنطقة "بون" انتقل بورقينا مع فريق من الهواة والمهتمين بالآثار إلى منطقة قالمة. فقام بحفريات "بالمقبرة المغاليثية "بالركنية في شهر جوان من سنة 1867 أين قام بحفر28 قبرا من نوع "الدولمن".
اسم الأثري |
تاريخ الحفرية |
عدد الدولمن المنقب فيها |
عدد الأواني الفخارية |
عدد الحلي |
العظام البشرية |
بورقينـا |
جـوان 1867 |
28قبر |
45 آنية مختلفة الأشكال |
13حلية من البرونز 2 حلية من الفضة |
عظام 48إنسان تم إثبات 20رجلا و17 امرأة |
وأقل ما يقال عن حفرية بورقينا أنه بغض النظر على الخيال الواسع الذي استعمله في تفسير كثير من القضايا، فإن حفريته[18]، تبقي واحدة من بين الحفائر الشبه منظمة.
- حفرية الجينرال فيد هارب Faidherbe:
لم تتوقف حملات البحث والتنقيب في المقبرة الميغاليثية، بل مباشرة وبعد أن كانت حفرية بورقينا في جوان من سنة 1867، تلتها حفرية فيد هارب. الذي كان يشتغل بالسينغال، عين كقائد عام لقطاع بون (عنابة الحالية). وهذا بعد سنتين من ميلاد "مدرسة هيبون" سنة 1865، وقبلها الجمعية التاريخية الجزائرية سنة 1856، ثم الجمعية البيئية سنة 1861[19]. ولقد نصب فيدهارب خيمه بمشتة الركنية، التي كانت مركزا هاما من مراكز التجمع السكاني منذ القديم. لأن قرية الركنية الحديثة ولدت مع نهاية القرن التاسع عشر، بعد استقرار المستوطنين بها. ويعد فيد هارب من المعارضين لأطروحة برتراند الكسندر Alexandre Bertrand القائلة بأن بناة "الدولمن" من الأوربيين، وقد قدموا من بريطانيا وفرنسا وإسبانيا نحو أفريقيا الشمالية[20].
وكان فيدهارب أيضا من الذين قاموا بحفريات شبه منظمة في "مغارة طاية" رفقة بورقينا، أين عثر على كمية معتبرة من العظام. كما قام بالتنقيب بالمقبرة، حيث وضع في النهاية مخطط لتوزيع "الدولمن" نحو:
اسم الباحث |
تاريخ الحفرية |
عدد الدولمن المنقب فيها |
عدد الهياكل التي عثر عليها |
اللقى الأثرية: فخار/ حلي |
الجنرال فيد هارب |
أكتوبر 1867 |
15 قبرا |
مجموعة من الجماجم والعظام |
مجموعة من الحلي والفخاريات |
ويرى فيد هارب بأن " المقابر تتابع في نفس الاتجاه في خط متواصل بحوالي ثلاثين "دولمن" في كل خط... ويعتقد أن نفس العائلة كانت تدفن أمواتها بالتعاقب[21]. وعليه فإن حفرية الجنرال فيدهارب إلى جانب حفرية بورقينا تعد من أهم الحفريات التي جرت في الموقع وتركت لنا رصيدا معرفيا وأظهرت بعض اللقى الأثرية.
- حفرية السيدة الكي Alquier :
بعد أن تمت حفرية كل من فيد هارب وبورقينا سنة1867، لم تجرى أي حفريات بالمقبرة، عدا بعض المقالات الوصفية. التي كانت تظهر من حين لأخر حول المنطقة، مثل ما كتبه سوليSouley سنـة .1869
وشـارل مـولىM. charles mollet ، و روبوReboud سنة 1881، وكذا فوفـال Fauvelle [22]
عام 1890.و بلوخ Bloch الذي درس سنة 1896 الجنس البشري. أما مع مطلع القرن 20 فقد كان من أهم ما كتب، هو ما تركه جاكو Jacquot سنة 1916 [23]. وتعد السيدة الكيAlquier من الذين قاموا بحفريات ذات أهمية نظرا لما أسفرت عنه من لقي أثرية.
صاحب الحفرية |
السنة |
عدد الدولمن المنقب فيها |
عدد الفخاريات |
الحلي |
السيدة الكي
|
1932 |
؟ |
52 آنية |
60قطعة من نوع cyprès محارة مروحية |
- دراسة جبريال كامبس :
يعد كامبس أحد الباحثين البارزين الذين اهتموا بهذه الفترة الحساسة في تاريخ منطقة شمال أفريقيا عموما. وكان موقع الركنية Roknia ، أحد المواقع التي اهتم بها في أبحاثه، خاصة ما تعلق بالمقارنات بين المواقع أو البقايا الأثرية. كما قام بدراسة الأواني الفخارية التي عثر عليها كل من فيد هارب والكي لمعرفة الفروقات الموجودة بين كل مجموعة وأخرى[24] .هذا، واهتم كامبس بمعظم ما كتب حول الموقع من مقالات أو حفريات أثرية.
ولقد كان من النتائج التي توصل إليها كامبس حول تشريب الفخار بالماء، الى وجود ثلاث عشائر كبرى. دون الأخذ بعين الاعتبار تنوع مناطق جلب التربة التي تختلف من حيث تركيبتها.
في ختام هذا المقال المختصر يمكننا ان نشير إلى الملاحظات والنتائج التالية:
- شساعة وكبر موقع ركنية جعله يستغل لفترة طويلة، مع ملاحظة استعمال نفس القبر للدفن المتكرر.
- المقبرة تتشكل من أكثر من 3000قبر من نوع "القبور المنضدية"، وحوالي 400 قبر من "نوع الحانوت".
- خلو الأثاث الجنائزي من مختلف أنواع الأسلحة.
- تنوع المصنوعات الفخارية والمعدنية ذات الاستعمالات المتنوعة.
- استقرار الإنسان بالموقع.
خاتمة :
من خلال مامر يمكننا أن نؤكد من خلال المعطيات الأثرية على أن منطقة الركنية شهدت استقرارا بشريا كبيرا على مدار الاف السنين ، والمعالم الأثرية المتواجدة كشواهد مادية تشير إلى التنوع الحضاري والاستقرار البارز الذي تمخض على مجتمع محلي تاثر بالحضارات الوافدة ترك بصمات هامة تجسدت من خلال المخلفات الأثرية.
قائمة المصادر والمراجـــــــــــع:
أبو العينين، حسن سيد احمد. (1979). كوكب الأرض وظواهره التضاريسية الكبرى (ط5). بيروت: دار النهضة العربية.
تريكار،ج ، روشفور ، م ، رمبير، س . (1982). مدخل إلى الأعمال التطبيقية في الجغرافيا. (حليم عبد القادر، مترجم). الجزائر: ديوان المطبوعات الجامعية.
فنطر، محمد حسين. حول المدافن في المغرب الكبير قبل الغزو الروماني. مجلة افريقية، عدد سنة 1985.
غانم، محمد الصغير. (1981) . التواجد الفينيقي البوني في الجزائر. رسالة دكتوراه غير منشورة. الجزائر: قسم التاريخ. جامعة الجزائر.
Bertrand. (1863). Monuments dits celtiques de la province de Constantine. T.VIII.
Berbrugger. )1864. (Chronique Archéologique Roknia. R.AF.
Bosredon. (1879-1877). Promenade Archéologique dans les environs de Tébessa . R.S.A.C. T.XVIII.
Bourguignat,J. R., (1868). Histoire malacologique de la région de Tunis. Paris.
Bourguignat , J. R., (1868). Histoire des monuments mégalithiques de Roknia pré de Hammam Meskhoutine. Paris.
Camps. (1961). Aux origines de la Berberie, monuments et rites funéraires protohistoriques, Paris: A.M.G .
Cherbonneau. (1868). Excursion dans les Ruines de Milev. Sigus. Sela . T.II. R.S.A.C.
Faidherbe, G., (1868). Recherches anthropologiques sur les tombeaux mégalithiques de Roknia . T. IV . B.A.H.
fauvelle. Quelques Considération sur les dolmens de Roknia (1890). Paris: Association Française pour l'avancement des Sciences.
Fiorini , S., (1935). Hammam Meskhoutine Antique station thermale .Paris .
Jacquot. (1916). La nécropole dolménique de Roknia. dans R.S.A.C.T.L.
Letourneux. (1868 ) . Sur les Monuments Funéraires de l'Algérie Orientale. Archive für. Anth.,
Reboud. (1881). Notes sur la nécropole mégalithique de Roknia .Alger: A.F.A.S.
Reygasse. (1950(. Monuments funéraires préislamique de l'Afrique du nord. Paris.
Seltzer, P., (1946). Le Climat de L’Algérie. Tableau n. 38. Alger.
سرّ التّحول المسيحي لأغسطين
(من الخطيئة إلى الكهانة)
د.زموري خديجة
جامعة باجي مختار-عنابة.
الملخــــص:
يعالج المقال سرّ التحول المسيحي لأغسطين، هذه الشخصية التّي تميزت في شبابها بحياة اللّهو واللامبالاة، بل المساس بأسمى المقدسات. ليصبح بعدها من أهمّ وأعظم آباء الكنيسة في العصر القديم، ووصلت تأثيرات فكره اللاهوتي الفلسفي للعصور الوسطى.
إن الوقوف على سرّ هذا التحول يمكن تلخيصه في ثلاث نقاط: أولها تأثير محيطه العائلي ونخص بالذكر والدته "مونيك"، إلى جانب طبيعة تكوينه العلمي الذي اتسم باطلاعه على كل علوم عصره (كتاب شيشرون – المذهب المانوي – الفلسفة الأفلاطونية – الكتاب المقدس). وأخيراً طبيعة تفكير أغسطين التي تعتمد على إخضاع الأمور إلى العقل قبل الإيمان أو التسليم بها. وقد مارست كل هذه الأمور تأثيراتها على أغسطين لتصل به في نهاية المطاف إلى اعتناق الإيمان المسيحي ويصبح من أبرز منظري اللاهوت المسيحي.
الكلمات الدالة: القديس أغسطين، المسيحية، الفلسفة الأفلاطونية، المانوية، أمبرواز، شيشرون.
ABSTRACT:
The article is about the Christian’s changement of Saint Augustin, who was known for his fun and pithy during his youth. More than that the prejudice to basic sanctities. However, he became one of the most important church’s fathers in the old age. his theological philosophical thought effect reached the middle age.
This change can be summarized in three main points. Firstly, his family environment, especially his mother Monique. Secondly, the nature of his scientific education (Cicero book, Manichean doctrine, Plotinus philosophy, the bible). Finally Augustin’s thought nature that depends on the reason before belief.
All that affected Augustin till he converted to the Christian faith, and become one of the most prominent theoretician of the Christian theology
KEY WORDS:
Saint Augustine , Christianity , Platonic philosophy , Manichaeism , Cicerone , Amboise .
مقدمـــــــــــــة :
عرفت الحياة الدينية في إفريقيا الشمالية نشاطاً لا مثيل له منذ وقت مبكر، فذاع صيت كنائس وأساقفة إفريقيا الشمالية. التّي كسبت شهرة على مستوى كامل الإمبراطورية الرومانية. فقد اسهم أساقفتها أيّما إسهام في إثراء الدين المسيحي، فأعمالهم يشهد لها تاريخ الكنيسة المسيحية إلى اليوم. ولعل الأسقف "ترتليانوس" من ابرزهم، فقد كان له أول اثر مسيحي مكتوب باللغة اللاتينية في شمال إفريقيا ، كما عُقد اقدم مجمع كنسي بقرطاج على يدّ "كبريانوس". لكن يبقى القديس أغسطين من أهم وأعظم الشخصيات التّي أنجبتهم شمال إفريقيا.
إن تنبع أهمية شخصية القديس أغسطين ليس في كونه قديس فحسب، أو شخصية دينية كانت لها بصمة بارزة في الكنيسة الكاثوليكية، إنما يعتبر موسوعة فكرية. فتأثيرات أفكاره وأعماله مازالت إلى اليوم تشغل الكثير من المهتمين. ليس في مجال اللاهوت وفقط بل في مجال الفكر عامة، وذلك نظراً لغزارة إنتاجه الإيديولوجي، حتّى قيل لا يمكن لشخص واحد أن يدرس كلّ أعمال أغسطين لكن السؤال الذي يطرح:
كيف لشاب بسيط عاش حياة اللامبالاة وفساد الأخلاق واللهث وراء شهواته الجسدية، أن يتحول إلى رجل دين. ويكرس مابقي من حياته لخدمة الكنيسة، بل يصبح من أكبر وأعظم مفكري عصره، إذ غمر العالم بأفكاره اللاهوتية، الفلسفية والسياسية إلى اليوم؟
العـــــــــــــــــرض:
1- محيطه العائلي:
بمدينة صغيرة جبلية تدعى تاغست[1] المعروفة اليوم بسوق أهراس بالجزائر، على نحو 100كلم جنوب مدينة "هيبورجيوس" عنابة[2] ، 180كلم شرق مدينة سيرتا قسنطينة[3]، ولد صبي بدوي يٌدعى أريليوس أوغسطينوس في 13 نوفمبر 354م[4] . من أمّ مسيحية تدعى مونيكMonique ، ذات أصول بربرية[5]4 .
وأب وثني يدعى بتريكيوسPatricuis ، مواطن بسيط ذو أصول رومانية1ومن ملاك الأرض الصغار. يشغل وظيفة رسمية في الحكومة المحلّية، رغم وثنيته كان متساهلا مع الدين المسيحي، الذي كانت تمارسه زوجته. ويبدو أنّه لم يكن يمانع في أن يتعلم ابنه منذ الصغير التعاليم والمعتقدات المسيحية.[6]
حظي أغسطين برعاية عائلية سمحت له بإنهال العلم منذ نعومة أظافره؛ فوالده بتريكيوس الذي كان ينحدر من طبقة بسيطة أو بالأحرى من الطبقة البرجوازية الصغيرة كان يواجه صعوبات مالية[7]. ورغم تلك الصعوبات كان متسلحًا معتمدا على طموحه أكثر من موارده، في سبيل إنجاح تربية ابنه، تربية تسمح له بتبوأ مكانة ضمن المجتمع الروماني. وأن يصبح مدرساً أو على الأقل محامياً في مجتمع كانت فيه المحاماة والقضاء تمثل ذروة المجد والرفعة[8]. فهذا الأب سعى بكل جهده توفير المال من أجل أن يوفر لنجله أقساط متابعة دراسته العليا بقرطاج.
رغم كل هذه التضحيات من والده نجد أن أغسطين في كتابه "الاعترافات" ، لم يظهر أبداً إعجابه وتعلقه بوالده، بل كان يتحدث عنه إلّا اذا تعرض للجانب المادي[9].
-2مساره الدراسي:
في سن السادسة التحق أغسطين كجميع اقرناه بالمدرسة بمسقط رأسه تاغست[10]، أين تلقى المبادئ الأولى في الكتابة، القراءة والحساب. ولم يظهر على أغسطين في هذه المرحلة أي ذكاء أو فطنة أو حب للتعلم[11]. بل عانى من عقاب أساتذته له، بسبب تكاسله وتقاعسه في إنجاز واجباته[12] .
إذ كان الضرب من الوسائل المتبعة في المدرسة آنذاك، وهي طريقة استحسنها كلّ من الأساتذة وأولياء التلاميذ، كوسيلة لإخضاع المتعلمين للطاعة.
غير أن هذا العقاب والأسلوب المُمِل كان عامل تنفير لأغسطين اتجاه المدرسة، إذ يقول: "... كرهتُ الدرس والأسلوب المتبع، إرغاماَ لي عليه، ومع انّي نفرت منه فقد أُكرِهت عليه ...."[13]
كان التعليم الابتدائي عموماَ ذا أهمية كبيرة لأغسطين، إذ استطاع من خلاله أن يقرا ويفهم كلّ ما يقع تحت يديه من كتب.
في حوالي 365 م[14] انتقل أغسطين إلى "مادور"[15] من اجل إكمال تعلمه [16]، لتظهر في هذه المرحلة مهاراته البلاغية. إذ ابدى تفوق على أقرانه واستطاع تعلم فن التعبير عن نفسه، وكذا جذب مستمعيه بجعلهم يضحكون تارة ويبكون تارةَ أخرى[17]. كما استطاع أن يعبر عن غضب وألم الآلهة "جونو" من خلال سردّ قصتها على المسرح.
كان معظم أساتذة "مادور" وثنيين الأمر الذي جعل التعليم ذا طابع كلاسيكي وثني، فقد أُرغم أغسطين وأصدقائه على حفظ واستظهار عن ظهر قلب أشعار هوميروس، فرجيل، شيشرون وساليست. ويتوجب عليهم شرحها بدقة[18]، فالملاحظ أن العلوم كانت ذات طابع أدبي محض.
ما إن اكمل أغسطين دروسه بمادور عاد إلى مسقط رأسه تاغست[19] في حوالي 369 م. وفي السنة الموالية لم يستطع الرجوع إلى صفوف المدرسة، فقد كان عليه أن ينتظر سنة كاملة. ليتمكن "باتريكيوس" والده من جمع المال الكافي[20] ، الذي يسمح له بإكمال دروسه في قرطاج. فشكلت هذه السنة منعرجاَ في حياة أغسطين، فأمام فقدان أبيه السيطرة الكافية عليه، جعله يسترسل في فعل كلّ ما يحلو له [21] فكانت سنة اللامبالاة، واللهو.
وأيضا الهمجية مع زمرة من الأصدقاء الخلعاء[22]، الذين عمدوا إلى المساس بأقدس المحرمات، ووقعوا في المفاسد بحثاَ عن الملذات حتّى وصل به الأمر إلى عصيان والدته التّي ضرب بنصائحها عرض الحائط.
في سنة 370م وصل أغسطين إلى "قرطاج" لإكمال دراسته العليا[23]، وحتما كانت الحياة بهذه المدينة أكثر تشويقا لشباب أتوا من مدن صغرى. فالمدينة كبيرة وتمثل رمز الحرّية، حتّى وصفها أغسطين بمرجل الشهوة المدنسة[24]. ففي هذه المدينة اتخذ أغسطين عشيقة[25] إشباعًا لشهواته في حوالي 371م. والتّي أنجت له ابنًا في حوالي 372م سمّاه "اديوداتوس"[26] أيّ عطية الله.
تابع أوغسطينوس دروسه في البلاغة والفصاحة آملا أن يسمو إلى تقلد منصب في القضاء أو المحاماة[27]. وقد اظهر أغسطين في هذه المرحلة تفوقا كبيرا على أقرانه، الأمر الذي أهله إلى فتح مدرسة لتدريس الخطابة. وهو في التاسعة عشرة من عمره[28]، وذلك بمساعدة وتمويل أحد مواطني تاغست الأثرياء، كان يدعى "رومنيانوس"[29].
الذي تكفل بكل مصاريف تعليمه بعد وفاة والده في 371 م[30]، إذ يقول: "... تغلبت على شهوات فرحت ادرس الخطابة وأبيع هذا الفن ..."[31] ومن ثمة تبحر أغسطين في دراسة أمهات الكتب ككتاب "هورتونيوس" لشيشرون[32] وكتاب أرسطو "المقولات العشر" ، التّي رغم صعوبتها استطاع فهمها وحده في حين عجز الكثير بمساعدة أساتذتهم على فهمها. غير أن عدم انضباط الطلاب في قرطاج، دفع بأغسطين إلى التفكير في السفر إلى روما آملا في معاش أفضل ومركزا أعلى وطُلابا أكثر انضباطا[33].
2- الصداقة:
شبَّ أغسطين غير متقيد بالدين ، فحياته لم تكن جدّية تماماَ . كان يهوى دائما البقاء في صحبة الأخرين، أولئك الذين كانت أذواقهم تتناسب مع ذوقه، فقد قضى كل وقته –خاصة العطل – في الكسل والخمول وفعل ما يحلو له. فجاب الطرق والأماكن بمعية رفاقه من أبناء جيله، حتّى أنّهم قادوه إلى فعل الخطيئة. كما يذكر في كتابه الاعترافات أين يروي لنا حادثة سرقة ثمار الإجاص من أحد البساتين.
فيقول: "....لم ارتكب تلك السرقة وحدي بل أحببت مرافقة من شاركتهم فيها.....لكن لذتي الوحيدة في الخطيئة التّي اشتركنا بها، لا في تذوق الإجاصات المسروقة" [34]
كان أغسطين يحظى بشعبية وسط رفقائه وفي المقابل كان يُسيئ إلى نفسه حتّى يترك انطباعاَ جيداّ عنه لدى زملائه. وخلال فترة المراهقة كان يتباهى بارتكاب خطايا لم يقترفها قط، وذلك حتّى يحظى بالإعجاب والامتنان. لكن في نفس الوقت أحاط أغسطين نفسه بثلة من الشباب الذين تميزوا على غراره بالتشوق إلى المعرفة، والميل إلى كشف أسرار الحكمة، عن طريق الفلسفة. منهم من ذكرهم في مؤلفه "الاعترافات" بإسهاب على رأسهم اليبيوس Alipius[35]، صديق الطفولة وفي نفس الوقت تلميذه.
بالإضافة إلى "نبريديوس"[36]. كان مجموعة كبيرة من الأصدقاء يبتهج كثيراَ بالتحدث إليهم، تلك الأحاديث التَي كانت مفعمة بالحيوية والنشاط، وكان يستمتع بالأفكار والآراء الحيّة التّي كان يبديها أولئك الشباب. لقد تحدث أغسطين بحرارة عن الحوار والضحك والاحترام المتبادل، ودراستهم المشتركة للفصاحة والبلاغة. وعن الصداقة التّي تظهر أحياناَ جدّية وأحياناّ أخرى مرحة[37].
الملاحظ أن أغسطين كان بطبعه اجتماعي، فلم يعرف في حياته طابع الانعزال عن الأخرين. فقد كان دائم الانفتاح على الأصدقاء كما كان أميل إلى اللقاءات مع الأخرين، وقد كان لهذه العلاقات المختلفة تأثير كبير على تكوين شخصيته[38].
3-رحلة بحث عن الحقيقة:
3-1 قراءته لهورثونيوس:
بعيداّ عن حياة اللّهو والمجون التّي عاشها أغسطين في شباب. كان شاباّ موهوباّ، ذكياّ، كثير المطالعة، غير أن الاستنارة العقلية الأولى لأغسطين كانت مع شيشرون. فخلال دراسته العليا بقرطاج اطلع على كتاب "هورثونيوس" الذي أيقظ وشكل فكره إلى الإيمان على الصعيد المعنوي والفكري.
إذ يقول: " في سن التاسعة عشرة من عمري اكتشفت في صف الخطابة كتابا لشيشرون يسمة هوثنيوس فاضطرمت حباَ للفلسفة وفكرت على الفور، في أن أقف نفسي على دراستها. "[39]
على الصعيد اللغوي أعجب أغسطيس بتلك التعابير الفصيحة والأدب الرفيع، الذي جاء في كتاب شيشرون. ومن ثمة ظهر له مدى ركاكة وفقر الكتاب المقدس، الذي انكب على دراسته تحت تأثير امه. ذلك التأثير الذي كان يجذبه للعقيدة بينما ميله العقلي يجذبه إلى الفلسفة[40].
كما سمحت هذه القراءة أن تتخذ شخصيتة سمتين الأولى هي الميل إلى تذوق الخير، والثانية البحث عن الحقيقة والحكمة. هذه التّي تسمى في اللغة اليونانية بالفلسفة[41]. فشيشرون بعد أرسطو وضع الحكمة فوق الثروة والشهوات وكلّ منفعة دنيوية. ومن هنا سيطرت على فكر أغسطين مدى حكمة هذا الفيلسوف العظيم، وبدأ شغفه بالبحث عن الحقيقة.[42] فقد حرض هذا الفيلسوف فكر أغسطين على طرح الأسئلة، لا لمذهب معين بل من أجل الحكمة عينها. وهي التي شكلت انطلاقته نحو رحلة بحث طويلة عن الحكمة الأزلية. غير أن حماسه خفّ اتجاه هذا الكتاب لأمر واحد وهو غياب اسم المسيح. إذ كان كلّ كتاب يخلو من اسم المسيح، لا يحلو له كثيراَ مهما كانت بلاغته، نسقه وفلسفته[43]. وهذا إن دلّ على شيء فانما يدل على البذور التّي يحملها أغسطين عن تعاليم المسيحية، والتّي حفضها عن والدته.
3-2 المذهب المانوي:
انكب أغسطين بكل كيانه على دراسة أمهات الكتب في عصره بحثا عن الحكمة والحقيقة الأبدية، واحتك خلال بحثه الدائم عن الحقيقة بجماعة دينية كانوا يعرفون بالمانويين. هذا المذهب الديني الذي كان يقوم على أساس تقديم تفسيرات وتعليلات لوجود البشر، الأمر الذي بدى له معقولا[44].
اخذ هذا المذهب اسمه من مؤسسه ماني[45] ، الذي أدعى أنّه مطلع على حقيقة الإنسان الطبيعية. زاعما أن الخلق هو نتيجة مزج بين جوهرين هما الروح والمادة. وأن هذين الجوهرين كانا منفصلين قبل السقوط.
ومآلهما هو الانفصال من جديد[46]. ومن هنا رأى المانويين بأن الحياة هي صراع ابدي بين النور والظلمة، بين الله والشيطان، بين الخير والشر[47]، بين الروح والجسد كما أن الجسد ليس إلاّ سجنا للروح. يقرّ أغسطين في اعترافاته وهو في سن التاسعة عشرة من عمره، كان قد استهواه اله المانوية فقد كتب في اعترافاته يقول :
"طول تلك السنوات التسع الممتدة بيت التاسعة عشرة والثامنة والعشرين من عمري كنّا فريسة لشهوات مختلفة كنّا نغزي النّاس و يغزوننا، ونخدعهم و يخدعوننا تارة علناَ بواسطة العلوم (الحرَة) ووتارةّ سرا تحت شعائر الدين الكاذبة."[48]
تمكن أغسطين في سنة 383 م بقرطاج من لقاء "فوستيوس" الذي اشتهر بفصاحته التّي استمالت الكثيرين. لكن أغسطين ورغم إعجابه ببيانه وفصاحته، إلاّ أنّه لم يجده أكثر حكمة من غيره. واستطاع أن يميز بينه وبين الحقائق التّي كان يتوق إليها.
فالملاحظ أن عجز فستيوس عن شرح المواضيع التّي كان يأمل أغسطين في إيجاد حلٍ لها، زعزع ثقته بالمذهب المانوي واتباعه. ولم يعد يرجو منهم تنويرا واغفل عن فهم وحل المشاكل التّي كانت تعذبه. إذ يقول في هذا المضمار: " تضمنت كتب المانوية خرافات لاحد لها عن الماء والنجوم والشمس والقمر وكما تمنيت عليه لو يشرحها لي بدقة ويقارن بينها وبين سواها من الشروح المركزة على الحساب التّي إذ اطلعت عليها في محل آخر لكي أرى إن كانت معطيات الكتب المانوية افضل منها أو على الأقل إن كانت تشرح الحوادث الأنفة الذكر شرحا مفصلا ومقبولا بيدا انّي لم اعد اؤمن بمقدرته على ذلك الأمر"[49].
شُلّ حماس أغسطين لتعاليم ماني ومبادئه وخفت ثقته باتباعه وأساتذته، بعد أن ثبت له عجز أشهرهم على الإجابة لما كان يختلج عقله، من تساؤلات عن مصدر الشرّ في العالم.
3-3 الفلسفة الأفلاطونية:
إثر انتقال أغسطين إلى روما في 383 م، وخلال بحثه الفلسفي وقعت بعض كتب الفلسفة الإغريقية بين يديه، عن جماعة الأفلاطونيين المحدثين[50]. التّي كانت قد ترجمت إلى اللاتينية بواسطة أحد أهم وأشهر معلميهم يدعى "فكتوريانوس"[51] . وقد سمحت هذه الكتابات لأغسطين أن يدرك طبيعة الله الروحية، وأن الحقيقة ممكنة التعلم وقابلة لأن تعرف[52]. وأن الله هو الكائن الأسمى، اللامتناهي الأبدي وهو النور. كما ادرك أن الشرّ ليس جوهراّ بل هو حرمان ونقص في الإنسان[53] . وأن حدوث الشرّ إنّما يكون بسبب سوئ استخدام الإنسان لإرادته الحرة [54].
يشير أغسطين في كتابه اعترافاته؛ أنّه بعد اطلاعه على الأفلاطونية المحدثة انتقل من النزعة المادية الحسية إلى النزعة العقلية الأفلاطونية المحدثة كما يقول عبد الرحمان بدوي: " الفلسفة الخالصة التّي لا تعرف الإيمان إلى الفلسفة المؤمنة، أي تقوم على الإيمان "[55]
استطاع أغسطين أن يستفيد من الفلسفة الأفلاطونية بطريقة إيجابية [56] ، وذلك حين إنتهل منها الكثير من المعارف وفي نفس الوقت رفض بعض الآراء التّي لم يقتنع بها ورفضها مقدما آرائه المعاكسة .
فالفلسفة الأفلاطونية صححت أفكار أغسطين عن الله إذ يقول: "بعد مطالعتي مؤلفات الأفلاطونية...ادركت أنّك موجود وأنّك لا متناه...وأنّك الكائن الدائم الذي لا يتغير "[57] .ولكن رغم الثراء الذي وجده في الفلسفة فإنّه لم يفوت فرصة اكتشاف الفخ المنصوب وهو خلو هذه الأفكار من اسم المسيح[58].
3-4 التقائه بامبروازيوس:
بعد انتقال أغسطين إلى ميلانو في 384 م، وحصوله على منصب أستاذ بلاغة[59] بمساعدة "سيماخوس"[60] في المحكمة الإمبراطورية. أتيحت له فرصة التعرف على القديس "امبروازيوس"[61]، الذي فاقت بلاغته بلاغة "فوستيوس". ومع مرور الوقت داوم أغسطين على سماع مواعظ امبروازيوس وبدأ يدرك أن أفكاره مقبولة، غيرت رأيه شيئا فشيئا نحوى الإيمان المسيحي، خاصة وأن امبروازيوس لم يكن رجل دين فحسب بل كان مفسرا أيضا.
وذلك لمعرفته الواسعة وإتقانه اللغة الإغريقية التّي كانت أساس فهم الكتاب المقدس كما نبّه "امبروازيوس" أغسطين إلى اكتشاف العمق الرّوحي للكتاب المقدس وذلك عن طريق رسائل المفكر العظيم بولس[62].
لم يكن تأثير سيمليسانوس [63]Semplisianus على أغسطين في اعتناق المسيحية بأقل أهمية، إذ له الفضل في اطلاعه على مقدمة إنجيل يوحنا. والتّي أورد فيها ملخصا عن العقيدة المسيحية، التّي سمح فيها بالمواجهة بين الأفلاطونية والمسيحية[64]. كما اطلعه "سيمبليسيانوس" على اعتناق "ماريوس فكتورينوس" Marius Victorinus النموذجي للمسيحية والتّي وجب الاقتداء بها.
في تلك الفترة التي قضاها أغسطين بميلانو، كان يسكن مع صديقه أليبيوس Alypius، وفي احدى الأيام زارهما صديق من الأفارقة الشماليين ويدعى "بونتيكيانوس" ، كان شخصية تشغل منصبا رفيعا في الدولة. وبعد نقاش دار بينهما حول المسيحية اخبرهم عن الناسك المصري "أنطونيوس"[65] الذي قرر اعتزال كل مغريات الحياة، وذلك بالتخلي عن الوظيفة والزواج والمجتمع، من اجل التفرغ لخدمة الله[66] . تأثر أغسطين بهذه القصة واندهش بأولئك الأشخاص الذين استطاعوا أن يسيطروا على عواطفهم وشهواتهم. وفكر في ضعفه الشخصي إذ يقول في اعترافاته
" التفت إلى أليبيوس كان مظهري يعبر عن الثورة المختلجة لذهني ثم قلت بتعجب ما بالنا نحن؟ و ماذا تعني هذه القصة؟ فهؤلاء الرجال لم يحصلوا على تعليمنا ولا على ثقافتنا ومع ذلك فهم ينهضون ليفتحوا أبواب السماء ويدخلوا إليها بينما نحن مع كل ثقافتنا وعلومنا نقبع هنا مذلين ....في دنيا اللحم و الدم.[67]"
احتاج أغسطين في هذه الأثناء إلى أن ينفرد بنفسه، فانقاد إلى حديقة بجانب الدار حيث ارتمى تحت شجرة التين، وأطلق العنان لدموعه التي أبت أن تتوقف، واخذ يؤنب نفسه إذ يقول:" إلى متى سأبقى أؤجل إلى الغد ثم إلى الغد الأخر...لماذا لا أضع حدا لخطاياي في هذه اللحظة بالذات.[68]"
وعندما سمع أغسطين صوت طفل صغير، لم يميزه صوت طفل أو طفلة يكرر المرة تلوى الأخرى:" خذه واقراه." فأحس أن هذا أمرا صادراَ من الله، يناديه فاتجه مسرعاَ إلى الكتاب الذي يحوى رسائل بولس. امسكه وفتحه بعشوائية يقرأ أول فقرة به والتّي تقول:"...لا بالبتر والسكر لا بالمضاجع والعهر لا بالخصام والحسد بل البسوا الرّب اليسوع ولا تصنعوا تدبيرا للجد لأجل الشهوات .[69]"
بعد هذه الحادثة شعر أغسطين بالسلام مع نفسه، وقد انتهى صراعه المرير، لكن لم يكن يعرف ما يخبأه له المستقبل، ومع ذلك كان على قناعة أن لا شيء اصعب في الحياة، إلا أن تكون بعيداَ عن المسيح. إذ يقول:" لقد صنعتنا لك ولا يمكن لقلوبنا أن تجد السلام إلاّ عندما ترتاح فيك.[70]"
شعر أن الله يدعوه إلى شرح الإنجيل ونقل فحواه إلى صفوة القوم في الإمبراطورية، فانكب مع ابنه "أديوتاتوس" و"أليبيوس" على دراسة العقائد الأساسية للإيمان المسيحي. وذلك في أقسام الدراسة التّي كانت الكنيسة قد أعدتها في ميلان للذين كانوا يطلبون المعمودية. وبعد أن انهوا دراستهم جرت معموديتهم على يد "أمبروازيوس" في جوّ من الفرح العام 387 م[71] .
أصبح أغسطين مسيحياَ بأتم معنى الكلمة، ليس له حرفة إلا الإيمان المسيحي. منذ سنة 386م قرر أن يكرس حياته لخدمة الله[72] ، وهذا يعني تخليه عن وظيفته كمعلم والتراجع عن زواجه المرتقب .
الخاتمـــــــــــــة :
إن سردنا لأهم محطات حياة القديس أغسطين يمكن أن تمنحنا فرصة الربط بين حياته وعالمه الفكري. عليه يمكننا القول أن أغسطين كان يحمل في فكره وذاته المسيحية، ولم تغب عنه لحظة. ودليل ذلك هو رفضه في كل مرّة مختلف المذاهب والآراء لسبب واحد لا غي،ر وهو غياب اسم المسيح. وكأن أغسطين كان يبحث عن من يثير فيه الروح المسيحية، ويوقظها، أو يريد إجابة لجملة عن جملة التساؤلات التي كانت تراوده، والتى عجز عن الوصول إليها. خاصة و أن طبيعة تكوينه العلمي كانت موسومة بالاطلاع التام على علوم عصره، إل جانب إحاطته بشتى المعارف والروافد الفكرية. وهذا يظهر جليا من خلال إنتاجه الفكري الغزير والمتنوع. فاطلاعه على الكتب الفلسفية وعلى وجه الخصوص كتاب "هورثنيوس" نبّهه إلى طرح التساؤلات. وانتقاد الأفكار والراء قبل قبولها بل وانتقاء ما هو منطقي وواقعي. وهذا ما طبقه مع الفلسفة الأفلاطونية التّي جعلته يدرك أن مصدر الشرّ في الحقيقة ليس جوهره الإنسان، بل هو ناتج عن سوء استخدام الإنسان لإرادته. الأمر الذي قربه أكثر من المسيحية، باعتبار أن هذا التفكير ليس من المبادئ الأفلاطونية فحسب لكن من مبادئ المسيحية كذلك.
إن أهم الأحداث التّي ميزت تواجد أغسطين بميلانو هو التقاءه بامبروازيوس الذي فتح أمامه أبواب لم يستطع أن يلجها من قبل. ونقصد هنا فك رموز الكتاب المقدس، الذي كان غامضا بالنسبة له، وذلك لجهله للغة الإغريقية. فقد عانى أغسطين صعوبات كبيرة في تعلم اللغة الإغريقية، التّي اظهر كرهاَ شديداَ لها، ولم يتمكن من تلقي قواعد متينة فيها. الأمر الذي لم يستطع تعويضه فيما بعد. فكثير من الكتابات تؤكد على أن أغسطين إلى غاية 400 م كانت معرفته بهذه اللغة ضعيفة، ومتواضعة جدًا. لا تتعدى استعمال مصطلحات تقنية في الفلسفة. فاللغة الإغريقية إذن ظلت بالنسبة لأغسطين غامضة حتّى أواخر حياته، عكس اللغة اللاتينية التّي اظهر فيها مهارات منذ الصغر.
استطاع بذلك "أمبروازيوس" دون أن يدري الإجابة على التساؤلات التّي تشغل فكر أغسطين وطالما بحث عن إجابات لها. من أهم هذه التساؤلات هي طبيعة الله. فان كان الإنسان على صورة الله ( المسيح ) ، فان الله على صورة الإنسان له جسد بشري. فجاءت إجابة أمبروازيوس أن طبيعة الله تظهر في الإنسان في جانبها وطابعها الروحي لا الجسدي، وقد أثرت هذه الإجابة أيما تأثير في أغسطين.
من خلال ما سبق يمكن القول أن تحول أغسطين من شاب مستهتر غير مسؤول، لهى بأسمى إلى رجل دين كرّس كل حياته إلى خدمة الكنيسة المسيحية ، كان ناتج عن تظافر عدة عوامل، فتحوله لم يكن وليدة لحظة أو تحول مفاجئ بقدر ما هو عبارة عن تراكم عقائدي، معرفي وفلسفي. إذ البداية كانت من محيطه الصغير ونقصد هنا والدته المسيحية. وبالتالي حمل تعاليم المسيحية من دون أن يدري، كما لاحظنا أن أغسطين كان بطبعه اجتماعي، فلم يعرف في حياته طابع الانعزال عن الأخرين. كان دائم الانفتاح على الأصدقاء أميل إلى اللقاءات مع الأخرين. وقد كان لهذه العلاقات المختلفة تأثير كبير في تكوين شخصيته، بالإضافة إلى عيشه حياة فكرية عرفت الكثير من التقلبات. بدءا بالفلسفة التّي أثارت فيه روح التفلسف والبحث عن الحقيقة، مرورا بالمانوية فالأفلاطونية التّي قربته من المسيحية، وأخيراَ وقوعه تحت تأثير "أمبروازيوس" هذا القديس، المفكر ،المفسر والفيلسوف، الذي استطاع أن يجمع بين شتات أفكار أغسطين بين تعاليم المسيح والفلسفة والحقيقة.
مارست التجارب العلمية الفلسفية المذهبية التّي مرّ بها أغسطين تأثيراتها حتّى بعد تحوله إلى المسيحية. وذلك بتبنيه عدة أفكار منها المفهوم المادي لطبيعة الإنسان الشريرة التّي اقتبسها من المانوية، أمّا الأفلاطونية فتظهر عندما اعتقد أغسطين أن الإنسان روح تستخدم جسد.
قائمة المصادر والمراجــع:
آلان د. فيتزجيرالد. (2010). أغسطين عبر العصور. ط1. (حكيم ميخائيل، مترجم). د.م.
ايمار، أندريه (1986). تاريخ الحضارات العام (روما وإمبراطورياتها). (ج2). (ط2). (فريد داغر وفؤاد أبو ريحان، مترجمان). لبنان: منشورات عويدات.
الأنبا، متاؤس (2009). نسكيات الأنبا أنطونيوس(حياته، رسائله، تعاليمه ). ط1. مصر: دار الكرمة للطباعة.
بدوي، عبد الرحمان (1979). فلسفة العصور الوسطى. ط3. لبنان: دار القلم.
البشروئي، سهيل ويمراد، مراد (د.ت). تراثنا الروحي (من بدايات التاريخ إلى الأديان المعاصرة). ط1. (محمد غنيم، مترجم). لبنان: دار الساقي.
جاريث، ب.ماثيور (2013). اغسطين. ط1. (ايمن فؤاد زهري، مترجم). مصر: آفاق للنشر والتوزيع.
الخضيري، محمد زينب (1992). لاهوت التاريخ عند القديس أغسطين. ط1. مصر: دار الثقافة للنشر والتوزيع.
الحويري، محمود محمد. (1995). رؤية في سقوط الإمبراطورية الرومانية. ط3. مصر: دار المعارف.
جيووايد، نغرين (1985). ماني والمانوية، دراسة لديانة الزندقة وحياة مؤسسها. ط1. (سهيل زكار، مترجم). (د.م): دار حسان.
روبين، دانيال (1999). التراث المسيحي في شمال إفريقيا، دراسة تاريخية من القرن الأول إلى القرون الوسطى. (سمير مالك، مترجم) لبنان: دار منهل الحياة.
زيعور، علي. (1983). أغسطين (مع مقدمات في العقيدة المسيحية والفلسفة الوسطية). ط1. لبنان: دار اقرأ.
المحجوبي، عمار. (1998). أبوليوس. ط 1. تونس: بيت الحكمة.
القديس أغسطين . (1996). اعترافات. ط5 .(الخوري يوحنا الحلو، مترجم). لبنان: دار دمشق.
القديس أغسطين. (2007). تعليم المبتدئين أصول الدين المسيحي في الحياة السعيدة. ط1.(يوحنا الحلو، مترجم). لبنان: دار دمشق.
القديس أمبروسيوس. (1996). الأسرار. ط2. مصر: بيت التكريس لخدمة الكرازة. مؤسسة القديس أنطونيوس.
المبكر، محمد. (2010). شمال إفريقيا القديم (حركة الدوارين و علاقتها بالدوناتية 305-429م ). ط1. المغرب: مطبعة النجاح الجديدة.
نعمة، حسن.(1994). موسوعة الأديان السماوية والوضعية، ميثولوجيا وأساطير الشعوب القديمة. لبنان: دار الفكر اللبناني.
يويو، جان. (2002). أوريجانس باحث مولع بالحقيقة، تاريخ الكنيسة المفصل. مج1. ط1. (انطوان الغزال وصبحي حمودي اليسوعي، مترجمان). لبنان: دار المشرق.
يوسف، كرم. (2012). تاريخ الفلسفة الأوربية في العصر الوسيط. مصر: مؤسسة الهنداوي للتعليم والثقافة.
Biechy, Amand .Saint Augustin de l’Afrique au Ve Siècle. 1ere éd. Barbou frères imprimeurs.
Brown, Peter (2001). La vie de Saint Augustin. (Jeanne Marrou , traductrice) . France: Édition Seuil.
Decourcel, Dominique (1995). Augustin le génie de l’Europe (354-430). France: édition Janlate.
Djedaite, Mahmoud (2009). Saint Augustin fils de Thaguest et Numidie. Algérie: édition APIC .
Fredoulle, Jean Claude (1867). Dictionnaire de la civilisation romaine. 1ere.
Fitzgerald, Alland. (2005). Encyclopédie Saint Augustin, la méditerranée et l’europe. Ive-XXIe siècle. France: éd le Serf.
Possidius (2008). Life of Saint Augustine. (Herbert Theberath Weiskotten, translator). United States of America: ChV, Evolution Publishing Merchantville.
Saint Augustin. Lettre VI V VII.
Songno, Cristiana . Symmachus, Aurelius. (2006). A political biography. University of Michigan press.
Victorinus, Marius (1960). Traités théologiques sur la Trinité. T.I. (Pierre Hadot, traducteur). Paris: édition le Serf.
مظاهر سلطة الأسرة السويرية في شمال أفريقيا القديم
من خلال البناءات العمومية
(قوس النصر كراكلا في تيفاست نموذجا)
د. مها عيساوي
جامعة تبسة. الجزائر
البريد الالكتروني:
ملخص:
لقد مثلت البناءات العمومية الرومانية في تيفست ( تبسة حاليا) نموذجا لخدمة سلطة الاحتلال الروماني وتكريس هيمنته وتجذر وجوده في المنطقة. والملاحظ أن عموم تلك البناءات العمومية في المدينة تعود إلى فترة حكم الأسرة السويرية (193م-235م).ويعد "قوس النصر كراكلا أهم تلك البناءات، إذ لم يكن بناءً عموميا فحسب بل مظهرا من مظاهر السلطة الرومانية المطلقة في المدينة فقط. وتدعم هذه الفكرة مدلولات نصوصه المنقوشة على واجهاته الأربعة.
هكذا تحاول هذه الدراسة التطرق إلى موضوع متعلق بجدلية الفن في خدمة السلطة الاستعمارية، وذلك من خلال البحث في العناصر التالية : طبيعة السلطة الرومانية ممثلة في الإمبراطور سبتيموس سيفيروس وأبناؤه ، ثم تركز على أنواع المنشآت العمرانية ذات الطابع السياسي والإداري في النموذج المدروس خلال العهد الروماني. وتتبع مظاهره أيضا خلال العهد البيزنطي. مع وضع خاتمة استنتاجية تبين آثار العلاقة بين الفن والسلطة في نوميديا خلال العصور القديمة.
RESUME:
Cette étude traite un thème historique et archéologique, basé sur la relation entre l’art architectural romain et le pouvoir des empereurs. Suites aux inscriptions de l’arc de triomphe de Théveste actuellement Tébessa.
Les Romains ont fondé des villes en Afrique Romaine dont apparait des aménagements de l’art et de l’architecture, et son développement dans la vie urbaine. Au temps elles reflètent des pouvoirs des familles qui ont en gouverné. ainsi que les régimes à l’époque, et pour preuve les constructions publiques.
Les édifices publics romains à Théveste représentent un type d’inscriptions au service du pouvoir de la colonisation romaine. De renforcer sa domination et existence au pouvoir, et ce qui est à remarquer c’est que l’ensemble de ces édifices dans la ville de Théveste reviennent à l’époque des pouvoirs de la famille des Sévères .
مقدمة:
أنشأ الرومان في شمال أفريقيا القديم مدنا عديدة احتوى ظاهرها مرافق ومنشآت معمارية دلت على ازدهار كبير لفن العمارة وتطور مذهل في الحياة الحضرية، وعكست في الوقت نفسه مدلولات سلطوية دلت على الأسر الحاكمة والنظم التي كانت سائدة آنذاك. وتعتبر البناءات العمومية خير دليل على ذلك. وبخاصة تلك التي أنشأتها الأسرة السويرية (193-235 للميلاد). التي تعد من أهم العائلات التي اعتنت بالفن العمراني في مستعمراتها عموما وفي شمال افريقيا خصوصا. حيث ازداد في عهدها عدد المرافق العمرانية من البناءات العمومية، ولم يكد ينته القرن الثالث حتى أصبحت بصمة الأسرة السويرية، واضحة المعالم في البناءات. التي شيدت تكريما وتمجيدا لها، ولا أدل على ذلك من أقواس النصر التشريفية ذات الطابع الإهدائي لشخصي "سبتيموس" "سيفيروس" وابنه كراكلا .
وكغيرها من مدن مستعمرات الإمبراطورية الرومانية، تعتبر مدينة تيفست ( تبسة[1] حاليا في شرق الجزائر) ، من المدن التي أحكمت سلطة الاحتلال الروماني سيطرتها عليها، فمنذ عهد فسباسيان( 69-79م)، تم انشاء مبان عمومية كثيرة فيها وأولها المسرح المدرج، والقصر القديم والفوروم.
أما في عهد السويريين فشيد "معبد مينارف" وقوس النصر كراكلا ، هذا الأخير الذي يعتبر أهم مظهر معماري فني يعكس بجلاء سلطة حكم الأسرة السويرية في تيفاست.
ولكن قبل ذلك حري بنا أن نطرح التساؤلات التالية : ما هي أهم المنشآت والبناءات العمومية التي تكرس سلطة كراكلا ( 212-217م) في تيفاست ؟
ولماذا نعتبر المنشآت والبناءات المعمارية العمومية مظهرا من مظاهر السيطرة السياسية والعسكرية لإدارة الاحتلال الروماني وبخاصة أقواس النصر؟ وما هي المدلولات التي يقدمها قوس النصر كراكلا في تيفاست؟
1- دستور كراكلا وآثاره في مدن المستعمرات:
لعل من أهم الأحداث السياسية التي تصدرت القرن الثالث للميلاد وأكثرها تأثيرا في مجريات أمور الإمبراطورية الرومانية هي ارتقاء العائلة السويرية عرش روما. فالسويريون كانوا آخر حلقة في عهد الازدهار الذي عرفته الإمبراطورية، فرغم ما قام به "سبتيموس" "سيفيروس" من أجل تماسك الإمبراطورية، إلا أن جهوده قد أهدرت وخاصة حين خاض ابناه "جيتا" و كراكلا، حربا داخلية انتهت بنجاح كراكلا. والتمكين لحكمه في أرجاء الإمبراطورية، عن طريق تغييرات سياسية واقتصادية واجتماعية عميقة.[2]
عرف عن كراكلا أنه كان دمويا حيث قضى على 20.000 من أنصار شقيقه "جيتا "، كي ينفرد بالحكم كما محى اسمه من النقوش التي أثبته والده فيها، ولم يسجل في عهده أي تمجيد "لجيتا".
ذكر المؤرخ " ميخائيل روستوفتزف" [3] عن سير الأباطرة أن كراكلا كان حريصا على جمع الأموال من أرجاء الإمبراطورية المترامية الأطراف، وإنفاقه في خدمة أغراضه الشخصية. وقد ذكر "ديون كاسيوس" و"هيروديان" أن الطبقة الأرستقراطية قد نقمت على كراكلا بسبب سياسته، التي أدت إلى انخفاض قيمة العملة وضعف القدرة الشرائية للمواطنين، وحتى اعتبرت فترة حكمه بداية لمرحلة الانحطاط والتدهور الاقتصادي.
ولعل أهم ما نزل بها هو تطبيق دستور كراكلا أنتونينوس الصادر سنة 212 للميلاد والذي أنزل، ولو نظريا، جميع أحرار الإمبراطورية، منزلة مساوية للعنصر الروماني السيد، عن طريق منحهم حق المواطنة الرومانية. وبذلك أصاب كراكلا عتو الأرستقراطية الرومانية في الصميم وأحبط من شأنها.[4] وقد اعتبر بعض المؤرخين المعاصرين دستور كراكلا بمثابة اغتيال للدولة الرومانية القائمة على مجلس الشيوخ والأمة الأصيلة من الدم الروماني، فالمواطنة فقدت قيمتها الاجتماعية بعدما فقدت قيمتها السياسية والروحية.
وهكذا عندما صمم كراكلا على التخلي عن الطبقة العليا، وأظهر ثقته في الطبقتين المتوسطة والدنيا اللتين ينتمي إليهما الجيش خاصة. محابيا جنوده بمنحهم حقوق المواطنة وبازدرائه للطبقة الأرستقراطية والملاك الكبار والمثقفين. زرع ذلك حبا وامتنانا واضحيْ الملامح في تصرفات بعض الجنود، الذين أرادوا رد الجميل وتقديم العرفان، في صورة صرح مشيد على مر الزمان. ولم يكن قوس النصر في تيفاست المهدى لكراكلا سوى تلك النتيجة المنطقية، لتعميم قانون المواطنة على طبقة لم تكن تحلم بالرقي الطبقي، لولا اهتمام مباشر بها من قمة هرم السلطة. فكان هذا الصرح الذي قام به سكان المستعمرات كعرفان لدستور كراكلا وآثاره الاجتماعية عليهم.
2- نبذة تاريخية عن مدينة تيفاست:
كانت تيفاست جزءا من المقاطعات التابعة للإمبراطورية الرومانية، واللافت أن حدود مدينة تيفاست كانت تتغير باستمرار باعتبارها كانت مدينة تقع على الشريط الحدودي الفاصل بين "نوميديا" و"البروقنصلية". ولهذا فعندما آل عرش الإمبراطورية إلى السويريين خلال القرن الثالث للميلاد، كانت ضمن أفريقيا البروقنصلية. وبكل ما طرأ على شمال أفريقيا من تغييرات سياسية واقتصادية واجتماعية كانت تيفاست تمس بتلك التغييرات البارزة.
تأسست مدينة تيفاست ( تبسة حاليا) خلال فترة الاحتلال الروماني لشمال أفريقيا القديم، غير أن حضورها الجغرافي في بعض المصادر الأدبية اليونانية التي تعود إلى القرن الثالث والأول قبل الميلاد. ممثلة في مؤلف " التاريخ العالمي" لبوليبيوس Polybe وكذا "المكتبة التاريخية" لديدوروس الصقلي Diodore de sicile دفع بالمؤرخين المحدثين إلى اعتبارها مدينة ذات منشأ نوميدي، حيث كانت تعرف بمدينة المائة معبد هيكاتومبيلوس Hécatompyle.[5]
يؤكد المؤرخ غابريال كامس G.Camps ، أن تيفاست كانت مدينة لوبية منذ القرن الثالث قبل الميلاد، مستدلا على ذلك بأحداث الحرب البونية الثانية. ففي سنة247ق.م قام القائد "حنون القرطاج" بالاستيلاء على مدينة داخلية كبيرة وهي"ايكاتمومبيلوس" .[6] كما وأن "سان جيروم" هو من قدم هذا الشرح ، حسب "رواية ديودوروس الصقلي" وأخذ منها 3000 رهينة، وأن عدد سكانها قد بلغ آنذاك 15000 نسمة.[7]
أما بالبحث في الأدلة الأثرية فقد قدر الباحث كريستيان كورتوا المساحة بناءً على عدد السكان وكانت حوالي61هكتارا. وهذا يعني أنها مدينة كبيرة ومهمة من الناحية التجارية.[8]
كما ذكر أيضا أنها ربما كانت مدينة ذات تسمية بونية ، فحسب ستيفان جزال عن "ملتزر" أنه من الممكن أن يكون القرطاجيون، هم الذين أطلقوا تلك التسمية. لما رأوه من تشابه بين طيبة الفرعونية وايكاتومبيل. فهل القصد من هذا التشابه تجاري أم مناخي؟ [9] أما الاتجاه المعاصر فيعود بها إلى الأصل النوميدي(الأمازيغي) في لفظة(ثيواست).[10]
كانت تيفاست إذن تابعة للمملكة النوميدية، واشتهرت بالزراعة والأسواق التجارية الأسبوعية خلال القرن الثاني قبل الميلاد. ثم عرفت بالتسمية نفسها منذ أن وطئها الاحتلال الروماني حوالي 40 ق.م. واستوطنت فيها الفرقة الأوغسطية الثالثة حوالي 75 للميلاد في المكان الأثري المعروف حاليا بتبسة الخالية.[11]
أما عن الشواهد الأثرية الدالة على أصل التسمية، فأقدم دليل لوحة باللغة اللاتينية أعلى أحد الأبواب في المسرح المدرج منقوش فيها "تيفستيس" أو (ثيواستيس). ويعود عهد هذا البناء العمومي إلى فترة حكم "فاسباسيان". والمرجح أن اسم تيفاست محلي، كما أشار آخر محافظ للمتحف في الحقبة الاستعمارية سيري ديروش إلى ذلك.
لقد ظلت تعرف بتيفستيس إلى غاية دخول جحافل الواندال، واستقرارهم قرب بئر العاتر، وذلك في بداية القرن السادس للميلاد . ثم أخرجهم البيزنطيون بقيادة القائد سولومون منها، وظلت التسمية على حالها. وكان سولومون قد بنى المدينة وحصنها بالأبراج والأسوار. وجعل المدخل الرئيسي للمدينة هو قوس النصر الروماني كراكلا . وعندما اعتنق أهلها الإسلام خلال القرن الثامن للميلاد أصبحت تعرف بتبسة، إلى أيامنا هذه.
3- التعريف بقوس النصر كراكلا في تيفاست:
يعد قوس النصر من أبرز مظاهر العمران المكرس للامتنان للسلطة، وهذه القراءة تحاول أن تجمع كل ما يتعلق بقوس النصر في تيفاست وهي قراءة تاريخية، وصفية مستمدة من الأبحاث الأثرية ونقوشية، تبحث في مدلولات النصوص الكوديكولوجية المثبتة على جدران واجهات المعلم.
1.3-نوعه : هو الأكثر شهرة بين المعالم التاريخية في المدينة، وهو معلم تاريخي من النوع رباعي الواجهات المتماثلة، محتوي على أربعة أعمدة كورنثية.
وفي المصطلحات الأثرية يعبر عن ذلك اختصارا بمعلم مربع الأقواس " كادريفرون وتيترابيل أو تتراستيل". ويعتبر الأثري ألبير بالو أكثر من قام بتعريفه كالتالي"arc de triomphe quadrifrons et tétrastyle Un "
ويمثل الأكثر ثراء من بين الأقواس المنتشرة ليس في ربوع البروقنصلية، فقط وإنما في كامل شمال أفريقيا. من حيث تماثل واجهاته الأربعة وكذلك للنصوص النقوشية والزخارف التصويرية التي يحتوي عليها. حتى أنه يشبه بقوس "جانوس في روما".
2.3-موقعه: يقع ضمن وسط مدينة تبسة، وهو جزء من مجموعة من معالم تاريخية تعود إلى العهدين الروماني والبيزنطي[12]. على بعد ستين متر من معبد مينارف الوثني، ومنذ القرن السادس استخدم كبوابة في السور البيزنطي.
3.3-سبب إنشائه: ارتبط إنشاء قوس النصر في تيفاست بالتشريف والإهداء للإمبراطور كراكلا خلال فترة حكمه (212-217م).
4.3-تاريخ بنائه: يجمع الدارسون له بأنه بني في فترة حكم كراكلا (211-217م). لكن أشارت معظم الدراسات الأثرية للمعلم أنه ابتدأ في بنائه سنة 211، التي توفي فيها سبتيموس وكان "جيتا" لا يزال في سدة الحكم. ودليل ذلك أن نقيشة الواجهة الغربية تذكر بأن جيتا إمبراطور إلى جانب أخيه كراكلا حسب رينيي،[13] وانتهى منه سنة 214 حسب جزال. [14]
أما عن الدليل الأثري في ذلك، فهو نص الوصية الذي نقش في أحد جدرانه الداخلية، والذي يذكر بأنه بني بأمر من القائد " كايوس كورنيليوس إيجريليانوس" قائد الفرقة الرابعة عشر المسماة "جيميناي". وهو أحد الأثرياء من أصل تيفستي. بني هذا القوس وهو أولا اهداء للإمبراطور كراكلا لكونه نال شرف المواطنة، وثانيا لأنها وصية لأفراد من أسرته.
4- تاريخ الدراسات والأبحاث السابقة حول قوس النصر كراكلا :
يعد العقيد "ليترونLétronne " أول من قدم عنه دراسة أثرية وصفية ومسحية قام بنشرها سنة 1842.
في المجلة الأثرية معتمدا على تقرير الرقيب لارديLardy ، وكذلك مخطط ديلامارDelamar وملاحظات العقيد نيقري Négrier . إذ شكل هؤلاء الطلائع الأولى للحملة الفرنسية على تبسة بعد احتلال الجزائر.
أما الضابط " مولMoll " ففيما بين 1858-1861، وضع تقريرا في المجلة الأثرية لقسنطينة، في دراستين هامتين حول تبسة الأثرية وضواحيها.
كما عمل كثيرون منهم على المعالم التاريخية للمدينة المدينة منهم: ألبير بالوBallu,A. ,1893)) وبوسريدون (Bosredon,1878) وأنطوان هارون ديفيلفوس (De Villefosse,H.,1880) ثم بيار كاستيل (P.,Castel ) وروني كانيا Cagnat,R.,1927,138)). وكذلك بايسونال في رحلته لتونس والجزائر. هذا وقد صنفها ستيفان جزال في الأطلس الأثري للجزائر، فأحسن في رصد مواقع معالمها الأثرية في الورقة رقم (28) من الأطلس.(Gsell,S. ,1997,f.28)
أما آخر من درس تيفاست قبل قيام ثورة التحرير الجزائرية (1954-1962)، فكان محافظ متحف مينارف سيري دي روك Seree De Roch ، الذي وضع الدليل الأثري الذي يحتوي على دراسات أثرية، وصفية وافية تعد مصادر لا غنى عنها حول آثار مدينة تيفست القديمة سنة 1952.[15]
أما الدراسات المعاصرة فكثيرة، وتعد دراسة جان ماري بلاس ديروبليس وكلود سينتس من أكثرها حداثة وجدية (De Roblès,M. et Sintes,C. ,2003,220) وكذلك آن ماري ليديي باري سنة 2006.
5- وصف قوس النصر بتيفاست المهدى لكراكلا:
تزخر المراجع الأثرية بتقديم وصف دقيق له. وعموما فالمعلم له أربعة واجهات بأربعة أبواب رسمية تزينها أربعة أعمدة كورنثية تلفت ثلاث منها لأسباب غير معروفة بدقة. وتقع الواجهات في وضعية متناظرة بصورة مكعبة بحيث أن كل واجهة تسند ظهرها إلى الأخرى بحسب الاتجاهات الأربعة. وأن كل واجهة بنيت على شرف فرد من أفراد الأسرة السويرية. فأما الواجهة الشرقية فهي مكرسة لسبتيموس سيفيروس.
وأما الواجهة الغربية فمهداة لجوليا دومنا، بل وتتميز بمجسم نوط يمكن أن يمثل حامية المدينة، وأما الواجهة الجنوبية فهي لكراكلا الذي أطلق اسمه على كامل المعلم. ولكن الواجهة الشمالية لم تحدد الشخصية المهداة إليه، بسبب التشويه الذي طرأ عليها.[16]
1.5- أبعاده:
ترتكز بنية المعلم على قاعدة ضخمة طول ضلعها (3.17م)، وبتقويسة عقدية تقدر انحناءتها بـ(4.60 م)، وارتفاع قدره (7.50م ). أما أعلى ارتفاع في نقطة العقد (8.30م)، وأعلى نقطة في المعلم كافة (8.80م)، ويرتفع الإفريز عن الأرض (10.93م)، ويتميز بكونه يحيط كامل المعلم. له نتوءات سننية وزخارف بيضية الشكل. ويعمل أيضا على كونه مساندا بارزا في الجدار. ويعلو كل قاعدة مربعة من الواجهات عمود كورنثي مونوليتي بطول يقدر بـ (5.73م).
أما السقف الداخلي فمكون من ألواح حجرية طويلة في جدران والواجهات، كانت فيها زخارف لم يبق منها ما يدل على جمالها. وتعلوه قبة محاطة بأربعة بناءات صغيرة، وفوق القوس توجد أعمدة تحمل تماثيل المعبودة أغست وكراكلا وجيتا. والإفريز ارتفاعه (1.25م).
2.5-النوط:
يحمل تمثال نصفي لرأس امرأة عليه تاج بعنق طويل، وشعر مجعد ببعض الضفائر المعكوفة على جبينها. وأسفلها يوجد نسر بجناحين مبسوطين يمسك ميدالية بمخلبيه. وقد اختلفت التفسيرات حولها، فيمكن أن تكون مينرفا معبودة المدينة أو حاميتها.
5.3-مدلولات النقيشات
تعكس مضامين نصوص النقيشات مظاهر سلطة الأسرة السويرية، ولكن في قالب من الوفاء والامتنان الذي أبداه المستفيدون من المواطنة من الأفارقة. ويقصد بهم هنا التيفستيون الذين حصلوا على امتيازات حقوق المواطنة. ويحتوي قوس النصر كراكلا(212-217م) على أربعة نقيشات، ثلاث منها إهدائية والأخرى تعرف بوصية كورنيليوس.
أ-النقيشة الأولى: نقيشة إفريز الواجهة الغربية: وهذا هو نصها المترجم: " جوليا دومنا الأوغستا والدة إمبراطوران باسيانوس كراكلا و بوبليوس جيتا"، عن النص اللاتيني الأصلي:
IVLIAE-DOMNAE-AVG-MATRI CASTRORVM-ET-AVG-ET-SEN-ET-PATRIAE
أما ترجمته الكاملة فهي كالتالي:
juliae domnae augustae, matri cactrorum el augusti, el senatus et patriae
ب-النقيشة الثانية: نقيشة الواجهة الشرقية المهداة لسبتيموس سيفيروس، وهذا هو نصها :
DIVO-PIO-SEVERO-PATRI
IMP-CAES-M-AVRELI-SEVERI-ANTONINI
PII-FELICIS-AVG-ARAB-ADIAB-ADIAB-PARTH-MAX- BRIT
MAX-GERM-MAX-PONT-MAX-TRIB-POT-XVII-IMP-II
COS III- PROCOS-P P
جـ - النقيشة الثالثة: تقع في أعلى الواجهة الجنوبية المهداة لكراكلا، وقد قام بدراستها مونيي Meunier ، وذكر فيه اسم ( ماركوس أنطونينوس بيوس).
وهذا ما يقابلها:
NINI PII GERMANICI SARMALICI NEOPLI DIVI ANTONINI PII PRONEPOLI, DIVI HADRIANI ABNEPOTDIVI TRAJANI PARTHICI ELDIVI NERVAE ABNEPOTI, MARCO AURELIO ANTONINO PIO FELICI AUGUSTO ARABICO ADIABENICO PARTHICO MAXIMO BRITANNICO MAXIMO GERMANICO MAXIMO,PONTIFICI MAXIMO,TRIBUNICIAE POLESTATIS XVII,IMPERATORI II, CONSULI IIII,PROCONSULI,PATRI PATRIAE.
أما نقيشة الواجهة الشمالية فهي غير موجودة، ويبدو أنها مخربة عمدا.
د -النقيشة الرابعة : تقع في الركيزة الشمالية الغربية على اليسار باتجاه البازليكا، وهو نص الوصية.
وهذا ما يقابله:
1-…..AMENTO C CORNELI EGRILIANI
2-PRAEF LEG XVIIII GEMINAE QVU TESTAMEN
3-T EX HS CCL N ARCUM STATVIS
4-……EN TETRASTYLIS DVOBUS CVM STATIVIS
5-……T MINERVAE QVAE IN FORO FIERI PRAE
6-…….ETER ALIA HS CCL MIL .N.QVAE.REI.PITA VT
7-….MNASIA POPVLO PVBLICA IN THERMIS PRAE
8-….D KAPITOL.ARG.LIB.CL XXI DEST LANCES IIII
9-….RI LEB ID EST PIHAL. III SCYPHOS II
10-….OM…M SECVUNDVM VOLVNTATEM
11-…..CORNELI FORTVNATVS ET QVINTA FRATRES ET
…..O SIGNAVERVNT ET OPVS PERFECERVNT.
ترجمة المعنى العام للنص: " هذه وصية كايوس كورنيليوس إيجريليانوس قائد الفرقة الرابعة عشر المسماة جيميناي، تخصص واجهتان للمعبودتين أوغست ومينرفا على شرف سبتيم سيفيروس ومينرفا، وجزء من ثروته لأخويه كورنيليوس فورتوناتو وكورنيليوس كوينتا، مع تخصيص مبلغ 250ألف سسترس لبناء حمامات للتيفستيين".
مما سبق يمكن استخلاص النتائج التالية:
- نصوص قوس النصر قدمت الكثير من أجل فهم بعض القضايا في التاريخ الاجتماعي للمدينة. فبعد أن منح الإمبراطور كراكلا حق المواطنة لجميع سكان الإمبراطورية، وعرفانا من أهالي تيفست شيدوا المعلم. وهو يدل على أن سلطة الأسرة السويرية كانت متغلغلة في قلب المدن الداخلية ذات الطابع الاقتصادي.
- طريقة تشييد البناء، توحي بأن المعلم قد بني بتأن ورغبة في إبراز قيمة الامتنان، الذي يظهره التيفستيون للأسرة الإمبراطورية الحاكمة.
- تقدم النقيشات معطيات لتتبع سيرة كراكلا وانتصاراته العسكرية، ففي النقيشة المهداة لسبتيموس يتم تعداد مناقبه والخضوع الكامل لأسرته.
- نص الوصية يعترف بالولاء والشكر لكراكلا، كونه قدم ترقية اجتماعية وسياسية للأفراد. فالروماني بالتجنس أصبح مثل الروماني بالولادة، ولا فرق بينهما في تحمل أعباء المواطنة. كواجب الخدمة العسكرية ودفع القسط العشريني من التركة. فالوضع القانوني الجديد مكن سكان تيفست من اكتساب كيان وسط المواطنين الرومان والطبقة الأرستقراطية. بعد أن منح الاسم الثلاثي لكل فرد، ولا أدل من "كايوس كورنيليوس ايجريليانوس". وبالتالي يمكن أن نعتبر النقيشات جزءا من المنشآت في حالة قوس النصر كراكلا.
خاتمــــــــــــة:
عكس قوس النصر كراكلا إشكالية الولاء الظاهري المفعم بالرهبة من قوة الأسرة السويرية الحاكمة فكان من النماذج المعمارية التي كرست لعلاقة الفن بالسلطة في ظل الإمبراطورية الرومانية.
قائمة المصادر والمراجع:
اكصيل، اصطيفان. (2007). تاريخ شمال أفريقيا القديم.ج5. الرباط: مطبوعات أكاديمية المملكة المغربية.
احصاءات المكتب البلدي للولاية.
كاستيل، بيار. (2009). حوز تبسة، دراسة وصفية جغرافية تاريخية لإقليم تبسة واعراشها. (العربي عقون، مترجم) ط1. الجزائر: مطبعة بغيجة حسام الخاصة.
كامبس، قابريال . (2008). ماسينيسا أو بدايات التاريخ. (محمد العربي عقون، مترجم). الجزائر: منشورات المجلس الأعلى للغة العربية.
Ballu, A. , (1894).Tebessa , Lambèse , Timgad . Paris: éd. Berthaut Frères.
Bosredon. (1878).Promenade Archéologique dans les environs de Tebessa . Rec. De Cne. , V : XIX .
Corbier, Paul et Gascou, Jacques. (1995) .Inscriptions de Tebessa d’après les archives de Paul Albert Février. Antiquités Africaines. T.31.
Castel, P., Tebessa ( Histoire et description d'un territoire Algérien ). T : 2 éd. Paris: Henry Paulin .
De Roch, S., (1952). Tebessa(Antique Théveste). Alger : imp.officielle.
De Roblès, J.Marie et Sintes , (2003).Claude. Sites et monuments antiques de l’Algérie. EDISUD .Aux_en-Provence
De Villefosse H., (1871).Tebessa et ses Monuments, Le tour du monde. Algérie.
Gsell. (1920).H.A.A.N.,T :2. Paris: librairie Hachette.
Gsell. S., (1997). Atlas Archéologique de l’Algérie.T:1. 2ème éd. Alger : Agence nationale d’archéologie et de protection des sites et monuments historiques.
Lancel , Serge .(2003). L’Algérie antique. Paris: éd. place des victoires.
Le Bohec, Yann. (1989). La troisième Légion Auguste. Paris: éd. CNRS.
Moll, M., Mémoire historique et Archéologique sur Tébessa(Théveste)et ses environs . Rec.de Cne.,T: 1 . Alger-Paris éd. Bastide-Challamel ( 1858-1859) , et (1860-1861)
اكتشافات اثرية في مقابر رومانية تظهر عادات الدفن
وتشهد على روعة الهندسة القديمة في مدينة "نيابولس الرومانية"
د. امنة أبو حطب
فلسطين
المقدمــــــــــة:
تميزت نابلس بموقع جغرافي استراتيجي جعل منها مدينة تاريخية واقتصادية ومحط اهتمام الغزاة والطامعين. فضلا عن انها مدينة اثرية، حظيت باهتمام كبير من الدارسين والباحثين. بوصفها مدينة فلسطينية مهمة شهدت ارضها نشاطات وتحركات وصراعات، كما انها رمز للعطاء والابداع والحضارة.
فهي تحتل موقعاً متوسطاً بالنسبة لمدن فلسطين، وقد أكسبها ذلك شهرة وأهمية. وحظيت مدينة نابلس باهتمام الجغرافيين والرحالة العرب والمسلمين، الذين أَظهروا لنا جوانب مهمّة من حياة المدينة السياسية والدينيّة والفكريّة. ولا زالت المدينة تفخر بتراثها وأمجادها ومواقف رجالها، المتسمة بالمحافظة على القيم والتقاليد العربية والإسلامية وشدة بأسهم بالجهاد والمقاومة.[1]
وبوصفها مدينة قديمة أيضاً فقد تعاقب على السكن، على أرضها أقوام عربية عصراً بعد عصر. وبرز العديد من رجالها على مسرح الأحداث السياسية والدينية والثقافية والعلمية، وكانوا مصابيح لامعة في سجل التاريخ العربي والإسلامي.
وقد أوردت التوراة أهمية مدينة نابلس الزراعية والدينية، فاتخذها يعقوب عليه السلام مسكناً له ولأبنائه: "ومضى أخوتُهُ ليرعوا غنم أبيهم عند شكيم.[2]" أما أول إشارة من المؤرخين العرب والمسلمين إلى مدينة نابلس فكانت من "البلاذري" صاحب كتاب "فتوح البلدان".[3]
أما الإصطخري (المتوفى سنة 340/ 951م ) وهو رحالة جغرافي، فقد أشار إلى ارتباط "السامرة" "بنابلس"، وكذلك كثرة مياهها الجارية، ذكر ذلك في كتابه: "المسالك والممالك "فقال: "نابلس مدينة السامرة يزعمون أن بيت المقدس هو نابلس وليس للسامرة مكان من الأرض إلا بها، وليس بفلسطين بلدة فيها ماء جار سواها، وباقي شرب أهلها من المطر، وزرعهم عليه.[4]
وقد أشار إلى أنها مدينة معروفة ومشهورة بأرض فلسطين، تقع بين جبلين مستطيلين لا عرض لها. وتتميز بكثرة مياهها. وفي ذلك يقول: كثيرة المياه لأنها لصيقة في جبل، أرضها حجر.[5]
اهتم الرومان بمدينة نابلس منذ تأسيسها وكانت من اهم المدن في فلسطين، وأول من اعتنى واهتم بها الامبراطور "فسبسيان" الذي حكم خلال السنوات 69-72 م ، وجعل من المدينة ذات طابع روماني عندما اقام عليها العديد من المنشآت المعمارية الرومانية.[6]
وازدادت هذه المكانة وهذه الأهمية في عهد القيصر "فيليب العربي"(244-249)، وأصبحت نابلس بمستوى مدينة رومانية، وجميع نقوشها تكتب بالرومانية واستمر هذا الحال حتى القرن الرابع الميلادي.
وترك الرومان اثار مهمة من معابد ومسارح وحمامات وميادين للسباق، وبالتالي فان هذه الاثار أصبحت جزء أساسي وحيوي من تاريخ فلسطين. وهي ثروة وطنية وعمق تاريخي، فضلا على انها ثروة اقتصادية في مجال السياحة، ومن أهم هذه الاثار المقابر الرومانية نوردها فيما يلي:
المقبرة الرومانية الشرقية - عسكر:
القبر في العهد الروماني عبارة عن "ران حجري" مستطيل الشكل مزين، على واجهته الرئيسية رسوم حيوانات مثل النسور والسحالي. وكذلك النباتات، وهذا الران (التابوت- الصندوق)، يوضع عليه غطاء حجري جملوني الشكل وغير جملوني في بعض الأحيان. يختم مع التابوت بواسطة مغلاق، مصنوع من الحديد الذي يمزج ويصب مع الرصاص المغلي.
يعتبر أسلوب القبر هذا أسلوبا خاصا بالرومانيين، وقد استعمل في المناطق ذات الثقافة والطابع المدن،ي وكذلك عند أصحاب الثروة والأغنياء في المناطق القروية طيلة العهد الروماني. وفي الوقت نفسه فإن الأسلوب الأخر القديم والخاص بدفن الموات داخل سراديب بأبنيته المقنطرة، لم يتوقف وإنما استمر هو الأخر في الاستعمال، إلى جانب هذا الأسلوب الروماني طيلة العهد الروماني البيزنطي أيضا.
أما مرفقات الميت فقد تغيرت هي الأخرى في هذا العهد الروماني، فبعد أن كان قديما يوضع مع الميت أدوات فخارية عديدة، أصبح يوضع معه في هذا العهد الروماني أدوات زجاجية صغيرة. احتوت على عطور وأمتعة شخصية، وأحيانا أدوات ذهبية وكذلك أباريق. استخدمت ربما في غسل الميت، ودفنت معه لنجاستها.
تقع المقبرة الرومانية الشرقية في قرية عسكر شمال شرق "تل بلاطة" الأثري، على أول الطريق المقابل لمدرسة "قدري طوقان"، والمتفرع شمالا عن شارع "عمان". على المنحدرات السفلى "لجبل عيبال". وقد اكتشفت صدفة أثناء قيام أحد المواطنين في المنطقة بالحفر لبناء بيت له سنة 1978م.
تتكون هذه المقبرة من غرفة فاخرة جدا، وشبه مربعة الشكل وتبلغ أبعادها 6.6متر مربع تقريبا. يغطيها سقف على شكل قبة، ويؤدي إليها باب حجري من قطعة واحدة. يدور على محور مع يد حديدية. وفي واجهتها الرئيسة يقوم عمودين منتصبين على قواعد حجرية، ومساحة مرصوفة بالفسيفساء البيضاء. كما تحتوي هذه المقبرة على عشرة من التوابيت "ران الحجرية المزينة بالزخارف المعمارية الجميلة، ويقوم بقرب أحد هذه القبور بئر ماء كان يستعمل لتطهير الموتى.[7]
يشير واقعها الأثري إلى أنها تعود في بناؤها إلى القرن الأول الميلادي. تشير الكتابة اليونانية على واجهة القبر الموجود في صدر المقبرة، الى قبر مؤسس أو باني المقبرة، على انه قد احتفظ باسمه الأصلي.
في حين تشير الكتابات اليونانية الأخرى، والخاصة بالقبور القائمة أمام وعلى جانبي قبر المؤسس، الخاصة بالأبناء والأحفاد، على أن أسماؤهم قد تبدلت لتصبح يونانية.
وتبعا لما يتوافر في هذه المقبرة من عناصر معمارية وزخرفية غنية، وتبعا لوجود الفسيفساء البيضاء النادرة في المقابر، غلا في عهد مدينة "نيا بولس"، الرومانية فإنه يعتقد بأن هذه المقبرة تعود لأحدى عائلتها الثرية.[8]
كما ويشير الواقع الثري لهذه المقبرة أيضا، على أنها قد استعملت مرة أخرى خلال القرنين الثاني والثالث الميلاديين من العهد الروماني. حيث تم الكشف فيها عن فخار يعود الى هذا العهد الثاني من تاريخها.
- المقابر الأثرية في سبسطية:
تنوعت أساليب الدفن في المدينة تبعا للفترة التاريخية، وأيضا بحسب المكانة الاجتماعية والسياسية للشخص. معظم المدافن الأثرية وجدت خارج أسوار المدينة، خاصة على السفوح المحيطة بالمدينة من جهاتها الأربعة. وقد كانت هذه المقابر ومنذ أمد بعيد عرضة للسرقة من قبل لصوص الآثار. نذكر أهمها كما يلي:
- 1. مقبرة القبة في مركز القرية القديم:
على سبيل الصدفة، وفي عام 1910 م أثناء قيام أحد المواطنين بحفر أساسات لبناء بيت تم العثور على هذه المقبرة Mausoleum ، ولم يتم حفرها إلا في عام 1937م. حيث أظهرت الحفريات أن هذه المقبرة عبارة عن غرفة سقفها على شكل قبة، تضم بداخلها حجرة الدفن بمساحة 330×330 سم. المدخل مغلق بباب حجري. تم البناء بواسطة حجارة مدقوقة بشكل جيد، يتقدم المدخل رواق محمول على أعمدة حجرية. تضم هذه المقبرة خمس توابيت حجرية، مزخرفة بزخارف نباتية وهندسية وآدمية رائعة الجمال. ونظرا لوجود هذه المقبرة على عمق كبير جدا، حاولت دائرة الآثار الأردنية في حنيه، نقل وتجميع هذه المقبرة عند الطرف الشمالي "للفورم"، ولكن هذه المحاولة لم تكتمل، ولا تزل القاعدة الإسمنتية وكذلك حجارة بناء غرفة الدفن قرب "الفورم". ولكن لا يعرف مصير معظم التوابيت الحجرية، باستثناء ما بقي منها في موقع المقبرة.
ويعود تاريخ هذه المقبرة إلى القرن الثاني للميلاد، هي التي اكتشفت على السفح الشرقي المقابل للمدينة، وهي عبارة عن غرفة منحوتة في الصخر، تتقدمها ساحة مبلطة وتضم عددا من التوابيت الحجرية المزخرفة.[9]
- المقبرة الرومانية الغربية:
تقع عند المدخل الغربي لمدينة نابلس الحديثة، على طريق نابلس – طول كرم، وعلى المنحدرات السفلى لجبل عيبال (الشمالي). جوار غرب محطة التميمي، ومقابل مطحنة القمح. في سنة 1960م قام أحد المواطنين بالحفر لبناء بيت في هذه المنطقة حيث ظهرت بعض القبور الرومانية. ونتيجة لهذا قامت دائرة آثار نابلس سنة 1966م، بمتابعة أعمال الحفر والتنقيب في هذه المنطقة، فاكتشفت فيها أعداد كبيرة من القبور الحجرية وثلاث غرف للدفن.
وفي سنة 1982م، قامت دائرة آثار الاحتلال الإسرائيلي، بإعادة فحص المنطقة ودراستها حيث تبين أنها تمتد شرقا إلى ما أسفل مدرسة الكندي المجاورة لها.[10]
يستفاد من الحفريات الثرية التي أجريت في هذه المقبرة بأنها تكون معماريا من ثلاث مغاور، أو كهوف، نحتت بالصخر وأغلقت فتحاتها الجنوبية بأبواب حجرية، لا تزال ماثلة للعيان إلى اليوم. حتى أن بعضها لا زال يمكن تحريكه على محوره إلى اليوم. ويقوم أعلى هذا الباب الحجري شبكة حجرية على طول عرض غرفة القبو، الذي يغطيه قبو واطئ .
وتحتوي كل من هذه المغاور الثلاث على عدد من القبور الحجرية "ران" مستطيلة الشكل، ومزينة واجهتها الرئيسية بأشكال حيوانية ونباتية. والموزعة على مختلف جوانب المغارة الواحدة. ويعتقد معها بان القبر الذي يتصدر واجهة المغارة مقابل المدخل، على الأرجح لمؤسس أو باني المغارة أو المقبرة في حين أن بقية القبور تعود لأبنائه أو لأفراد عائلته.
كما ويتقدم هذه المغاور الثلاث أرضية واسعة، ساحة مكشوفة، مبلط بالبلاط الحجري. والتي يقوم فيها أيضا عدد آخر من القبور الحجرية، على غرار القبور القائمة داخل غرف المدفن . مما يعني بأن المدفن أو القبر في هذه المقبرة لم يكن مقصورا على داخل المغاور، وإنما على خارجها أيضا. كما ويقوم في النهاية الشرقية الشمالية من هذه الساحة المبلطة، بئر للماء ويشير واقعها الأثري إلى أنها تعود إلى القرن الثاني-الثالث الميلادي.[11]
- مقبرة الورش – دوار عصيره الشمالية:
تقع على المنحدرات السفلى لجبل عيبال، أسفل محاجر الورش (سما نابلس حديثا)، حيث دوار عصيره الشمالية، وبالتحديد جوار غرب عمارة الصالحية. وقد اكتشفت صدفة سنة 1996م، أثناء الحفر لأساسات العمارة المذكورة.
تتكون المقبرة من غرفة واحدة منحوتة في الصخر، ولها مدخل شمالي صغير دائري في أعلاه. يغطيها باب حجري على غرار مداخل المقابر الرومانية الأخرى. يقوم داخلها ثلاث قبور حجرية (رانات – توابيت)، في حين يغطيها السقف الحجري الذي ارتفاعه بارتفاع قامة الرجل.
ولا تشير أرضيتها إلى أنها كانت مبلطة بالفسيفساء أو غيره. كما أن واجهات قبورها مزخرفة بزخارف هندسية، مما يشير إلى أن أصحابها كانوا من ذوي الطبقة المتوسطة الحال في العهد الروماني. كما ان واقعها الأثري والفخاريات التي اكتشفت فيها تدل على انها تعود في بنائها الى القرن الثاني – الثالث الميلادي .[12]
الخاتمـــــــــــــــــــــة:
لمدينة نابلس الفلسطينية عمق تاريخي يمتد الى الاف السنين، مما يعني انها منطقة تحمل هوية فلسطينية كنعانية راسخة ثابتة. وبالتالي فإن أي عوامل وظروف ومتغيرات لا تلغي هويتها الفلسطينية العربية الكنعانية التي تكونت عبر التاريخ.
وفي كل العصور والازمنة التي عاشتها نابلس جعلت منها جزء من الهوية والتاريخ الفلسطيني، وبالتالي فإن دراسة تاريخها هو دراسة لتاريخ فلسطين.
قائمة المصدار والمراجـــــــــــــــــع:
التوراة. سفر التكوين
البلاذري، أبو الحسن احمد بن يحيى بن جابر (1983). فتوح البلدان. بيروت.
الاصطخري، أبوا إسحق إبراهيم بن محمد. (1987) . المسالك والممالك.
الدومسكي، مرمرجي. (1997) . بلدانيه فلسطين. منشورات المجمع الثقافي.
العايدي، محمود. (1973) . الآثار الاسلامية في فلسطين والأردن. عمان.
كلبونة، عبد الله صالح. المواقع والأبنية الأثرية والتاريخية.
كلبونة، عبد الله صالح. (1992). تاريخ مدينة نابلس(2500ق.م-1918م). نابلس.
Magen, flavia. Neapolis.vol.1.
النصب الكتابية بنوميديا الشرقية
ﺃ. دحو كلثوم/ باحثة
مديرة متحف سيرتا سابقا
توطئــــــــــــــــة:
لقد كشفت الأبحاث الأثرية عن وجود المئات بل أكثر من ذلك بكثير من النصب التي نقشت عليها كتابات غير مألوفة لفترات عديدة من العصور العتيقة الليبو-نوميدية. ولذلك كانت موضوعا لعدد من الدراسات المنشورة في المجامع Corpus وفي المجلات المتخصصة. والملفت للانتباه أنّها لا تزال إلى اليوم غير مقروءة، رغم بعض المحاولات التي تتوصّل إلى فكّ "شفرتها". هذه الكتابة هي الخط المعروف عند المتخصصين باسم الخط الليبي Le libyque الذي يسميه البعض الخط النوميدي-الأمازيغي والخط التيفيناغ أحيانا.
وحيث أنّ تقديم شيء بخصوص قراءة تلك النصوص الأثرية الليبية غير متيسّر، ولا ندّعي القدرة على خوض ذلك الموضوع الصعب. منه سنحاول في هذه الورقة تحديد توزّعها وانتشارها على خريطة الشرق الجزائري، من الحدود الجزائرية التونسية شرقا حاليا إلى وادي الصمام غربا، ومن أقصى نقطة تتواجد فيها جنوبا إلى المنطقة الساحلية.
- الأبجدية الليبية:
إن الأبجدية الليبية هي من كتابات العالم القديم، ينسبها رواد البحث في هذا المجال إلى أسرة اللغات السامية-الحامية Chamito-sémitiques . وقد أشار هيرودوت ابتداء من القرن V ق.م، الى اللغة اللوبية عندما ذكر سكان هذه المنطقة.[1] بينما يحاول البعض الآخر ضمّها إلى الكتابات القديمة التي ظهرت في البلدان المتوسطية، كالفينيقية والبونقية والإغريقية واللاتينية. ولقد اكتشفت هذه الكتابة منقوشة على مئات النصب الجنائزية، وفي مواقع عديدة على امتداد الشمال الأفريقي.
وصلت إلينا الكتابة الليبية عبر النصب الجنائزية التي اكتشفت في مناطق عديدة بشمال أفريقيا، ويعتقد البعض أن أقدم هذه النقائش هي نقيشة "دوقة" المزدوجة التي تعود إلى سنة 139 ق.م.[2] وهي محفوظة في المتحف البريطاني. وعلى عكس الأبجديات المعاصرة لها فإنها استمرّت إلى الآن تحت اسم "التيفيناغ". ولا تزال حيّة عند المجموعة الترقية، التي احتفظت بها بعيدا عن المؤثرات التي حملها المستعمرون المتعاقبون، على حكم الشمال الأفريقي.
كانت الأبجدية الليبية حرّة في كتابتها إذ تكتب أفقيا أو عموديا، لكن التأثر باللغة العربية في عصور تالية جعلها تحاكيها في الكتابة أفقيا، ومن اليمين إلى اليسار.
.Iالنقائش الليبية :
قمنا بعد جمع هذه النقوش (1 )بتوزيعها على مناطق اكتشافها(2)لنتوصل إلى معرفة أين كانت تتواجد بكثافة وأين كانت أقلّ كثافة وأين تنعدم (3) .ومن خلال هذا أمكن لنا أن نتعرف على أماكن الكثافة البشرية بشمال أفريقيا، خلال فترة انتشار تلك الكتابات.
وخلال توزيع هذه النقوش على الخريطة حسب مناطق العثور عليها، برزت أمامنا حقيقة وهي تواجد نقوش بعدد كبير ببعض المناطق. مما أدى بنا الي رسم خريطة أخرى على سلّم مناسب، لإظهار أماكن تواجدها. ويتعلق الأمر بالمنطقة الحدودية ما بين "القالة" و"طبرقة" حيث توجد أكبر نسبة من النقوش الليبية، وقد وزعناها على الخرائط أدناه كما يلي :
- الخريطة الأولى للنقوش الليبية تحمل حرف "أ"
- الخريطة الثانية للنقوش الليبية تحمل حرف "أ1".
- الخريطة الأولى "أ" والثانية "أ1" للنقوش الليبية نرمز لها بمثلث أسود وعددها عشرة نقوش، وبمثلث أبيض لنقيشة واحدة.
- الخريطة الثالثة للنقوش البونيقية كما أشرنا لبعض النقوش المزدوجة بحرف "ب"، ورمزنا لنقيشة واحدة بمربع أبيض ولعشرة نقوش بمربع أسود.
- الخريطة الرابعة لمدينة «قرطن- سرت» ، قسنطينة وضواحيها نظرا لكثرة النقوش التي تواجدت بهذه المدينة.
تواجدت النقوش الليبية في المنطقة الحدودية المحصورة ما بين القالة شمالا وسوق أهراس جنوبا، إلى قالمة غربا.
وتبدأ في التباعد عن بعضها البعض بشرق مدينة قسنطينة لتتكاثف أكثر بجنوبها ما بين أولاد رحمون وسيقوس وشرق عين مليلة وغرب مدينة قسنطينة ثمّ تتكاثف بدرجة أقلّ بجوار مدينة ميلة إلى "فج مزالة" غربا ومن "وادي العثمانية" إلى "تلاغمة" جنوبا. لتتباعد مرة ثانية بالسهول العليا الشرقية من عين البيضاء إلى جنوب عين مليلة.
تذكر المصادر الأدبية أسماء بعض القبائل التي كانت تقطن بهذه المناطق، لكن لم نتوصل إلى معرفة مواقع استقرارها[3] ، وهنا ينبغي طرح السؤال في ما إذا كانت هذه النقوش الكتابية متواجدة[4] بأماكن تواجد تلك القبائل أو بأماكن مدن قديمة أو خارجها ؟ ولو توفّر لنا الجواب على هذا السؤال لأمكننا أن نقارنها بأماكن تواجد الكتابة الليبية[5] اعتمادا على المواقع الأثرية التي ذكرها اسطيفان قزال سأسمفي أطلسه الأثري[6].
(1) توزيع النقوش الليبية في الشرق الجزائري (كلثوم قيطوني دحو 1981)
وحسب هذا التواجد فإنّ النقوش الليبية موجودة بكثافة في منطقة محصورة بين الطارف جنوبا، بوحجار غربا. أين نجد أيضا "الدولمن" الداخلية بكثافة[7]، وهو ما أثبتته الأبحاث الأثرية في هذه المنطقة التي كانت موطن قبائل ميسيكيري Misiciri . التي ذكرت النقوش الليبية اسمها بالكامل[8]. كما أن جل أماكن استقرار كبرى للقبائـل النوميدية شرقي المملكة النوميدية تتكاثف بها النقوش الليبية على غرار "قبيلة نوميدية" Numidiae ، وقاعدتها مدينة "تبرسق النوميدية"Tubursicu-Numidarumجنوب غرب سوق اهراس وغير بعيد عنها.
(2) توزيع النقوش الليبية جنوب شرق مدينة عنابه (كلثوم قيطوني دحو 1981)
ونلاحظ شبه انعدام هذه النقوش بالمدن القديمة والمعروفة[9] ، وهو ما استند عليه القائلون بأنّ ذلك يعود إلى عدم اتخاذ هذه الكتابة كتابةً رسمية. ووجودها بكثافة خارج هذه المدن، دليل على استعمالها من طرف عامة المجتمع.
.IIالنقائش المزدوجة الليبية – البونية والليبية - اللاتينية :
تتوزّع الأولى كالآتي :
- نقيشة بمدينة قسنطينة.
- نقيشة بمدينة قالمة.
- نقائش ما بين الجنوب الشرقي والجنوب الغربي من مدينة قالمة.
- نقيشتان جنوب شرق مدينة ميلة
- نقيشة بجنوب غرب نفس المدينة.
أما النقائش المزدوجة الليبية-اللاتينية فهي موزعة كالآتي :
- نقيشة بجنوب شرق مدينة عنابه.
- نقيشتان بجنوب غرب نفس المدينة " عنابه".
- نقيشتان بشمال عزابه.
- نقيشة بجنوب غرب قالمة.
- نقيشة بشمال غرب سوق أهراس.
.IIIالنقوش البونية:
وُجِدت النقوش البونيقية Puniquesبكثرة بمدينتي قسنطينة قالمة وبجنوبيهما، وبكثافة أقل بالمنطقة ما بين عين مليلة وباتنة . أما بميله فتتوزّع في أماكن بعيد بعضُها عن بعض، كما وُجد بعضها شرقي سوق أهراس، وشمال وغرب مدينة الطارف. أما بالسواحل فهي شبه منعدمة، وُجد منها نقشان اثنان بمدينة عنابه، وواحد بمدينة القل وواحد بمدينة بجاية. وعموما فإنّ توزّيع النقوش البونيقية أكثر في المدن، هو الذي جعل البعض يرى فيها الكتابة الرسمية للغة الرسمية[10] في الممالك النوميدية. مع أنّ هذا الحكم ليس نهائيا لأنّ الأمر متوقّف على الأبحاث الأثرية التي يمكن في حال استئنافها أن تقلب ما يراه البعض اليوم حقائق مؤكّدة.
أما المدينة الثانية التي تواجدت بها النقوش البونية، فهي مدينة قالمة. ويحتمل أنها كانت المدينة الملكية أو المدينة المفضلة للملوك.
أما النقائش البونيقية - اللاتينية فنجدها منحصرة مابين شمال تونس ونواحي قالمة كالآتي :
- نقيشة بجنوب قالمة.
- نقيشة بغربها .
- نقيشة بشمالها.
- نقيشة بشمال شرق صدراته.
- نقيشة بشرق ميلة أي غرب مدينة قسنطينة.
ومن خلال تواجد هذه النقوش بالشرق الجزائري نستنتج ما يلي:
ان النقوش البونيقية منحصرة وبكثافة بمدينتي قسنطينة و قالمة، بينما النقوش الليبية نجدها خارج هاتين المدينتين، وتحيط بهما من الجهات الأربع. الأمر الذي يؤدي بنا إلى استنتاج أنّ الكتابة البونيقية كانت تستعمل في المدن للتعامل الرسمي، والديني، والإداري. بينما خارج هاتين المدينتين في الأريا،ف فنجد كثافة النقائش الليبية لكنها ، تواجدت في بعض المدن والقلاع كمدينة ميلة و"قلعة تيديس".
(3) توزيع النقوش البونقية الجديدة والمزدوجة بالشرق الجزائري (كلثوم قيطوني دحو 1981)
.IVالنقوش الكتابية بـ"كرتن Krtn" سرت و ضواحيها:
ابتداء من القرن التاسع عشر الميلادي وأثناء الاحتلال الفرنسي تم تقسيم مدينة قسنطينة إلى قسمين[11] :
- المدينة العربية الإسلامية: أدخلت عليها تغييرات لبناء أحياء أوربية[12] فوق الصخرة. وأثناء التحويل والحفر كشف الستار عن آثار ولقي مختلفة، ونصب عليها كتابات، بمواقع مختلفة من المدينة وبالضواحي(فوق الصخرة، في كدية عاتي، في المقبرة الأوروبية، حي المنظر الجميل، في منحدر جواد الطاهر، بحي بيدي لويزة وبمنحدر سيدي مْسيد.) (أنظر خريطة اللقى).
وتوج هذا الاكتشاف بالعثور على حوالي ألف نقيشة بمعبد الحفرة[13] Sanctuaire punique d’El Hoffra بحي بيدي لويزة "حاليا" ، بموقع شركة سوناكوم "رونو سابقا" وكان هذا الاكتشاف سنة 1950.
- المدينة الأوربية : تواجدت في الضواحي خاصة منطقة الكدية ، وخلال أشغال البناء اكتشفت مئة وخمسون نقيشة بونيقية بمنحدر جواد الطاهر"حاليا" ، "لالوم سابقا ".
- غير بعيد عن "معبد الحفرة" ما بين 1866- 1927[14]. أما شرقي خانق الرمال في مرتفع المنصورة فقد اكتشفت نقيشة واحدة بها ثلاثة أحرف بونيقية ليصبح المجموع أكثر من ألف نقيشة. كتبت بأربع كتابات منها "البونيقية والبونقية الجديدة Néopunique، والمزدوجة والإغريقية واللاتينية. ومن بين هذه النقوش التي وجدت "بمعبد الحفرة" و"منحدر جواد الطاهر"، ثلاثة عشر نقيشة تعود إلى عهد الملك "ماسينيسا" ما بين سنتي 163-162 ق.م. وسنتي 148-147 ق.م.[15] وواحدة تعود إلى عهد ابنه "ميسيبسا" 128-127 ق.م.[16]
.Vالنقائش والأنصاب التي اكتشفت فوق الصخرة:
- نقيشة فوق الصخرة [17].
- نقيشة بالقرب من مقرّ البلدية.
- نقيشة بساحة قصر الياي[18] .
- نقيشة بالجناح الغربي لهذه الساحة.
- نقيشة بكدية عاتي " أين كانت المقبرة العتيقة".
- نقيشة بونيقية جميلة.
- نصب غير منقوش[19].
- نصب مكسورة.
- نقيشة بنهج قيطوني عبد المالك Ex-Rue de bienfait.
- نقيشة بالمقبرة المسيحية "بونيقية متأخرة".
- نقوش بالمنظر الجميل "وجدت بأماكن مختلفة من هذا الحي".
- نقوش بونيقية بالمنظر الجميل.
- نقوش بونيقية.
- نصب غير مكتوبة.
- نقيشة بالكتابة الإغريقية[20].
ومن خلال هذا العدد أصبحت مدينة قسنطينة المدينة الثانية بعد قرطاج، التي احتفظت بنصوص بونيقية ، وقبل سوسة )هاضرموت(*) (Hadrumetum. أما من حيث أهميتها التاريخية فنصوص قسنطينة ذات أهمية خاصة. أما خارج المدينة وبالجهة الشمالية الغربية وبالضبط "بمدينة تيديس" فقد تم اكتشاف تسعة نقوش بونيقية حديثة أي متأخرة. بينما يرى بيرتي في كتابه "نوميديا ، روما والمغرب" أنها نقوش فينيقية[21] . ونجد هذه النقوش تتباعد في شمال مدينة قسنطينة وجنوبها، وغربها. وشرق وجنوب مدينة ميلة، كما نجدها متباعدة عن بعضها البعض، وبأقل كثافة بجنوب مدينة الطارف. وغرب مدينة بوحجار، وجنوب شرق مدينة سوق أهراس. أما بالجنوب فهي منعدمة تماما وشبه منعدمة بالسواحل، ماعدا بمدن عنابه والقل وبجاية [22].
(4) مواقع الاكتشافات الأثرية في قسنطينة
من 1853 إلى الآن:
1.كدية عاتي : المقبرة ، مئات من القطع الأثرية (فخار وزجاج وغيره).
2.الحفرة 1225 (نصاب، فخاريات...)
- اكتشافات عديدة."قبور"
4.المنصورة: اكتشافات أثرية عديدة.
5.سيدي مبروك: لقي مختلفة.
6.السيلوك (CILOC): فخار.
7.الصخرة – القصبة : قطع أثرية هندسية . قصر الباي : أنصاب بونيقية.
8.المقبرة المسيحية : قبور وأنفورات
9.مساكن ولقي أ ثرية بحي سيدي مسيد.
.VIالكتابة الفينيقية:
إن أبجدية هذه الكتابة مستعملة في كل أنحاء العالم القديم، حيث انتقلت مع التجار الفينيقيين، ثم تطورت في ثلاث مناطق من البحر الأبيض المتوسط. والموطن الأصلي "صيدا" و"صور" و"قبرص" و "قرطاج" ، وقد استمرت "صور" على علاقة بمستعمراتها الأفريقية، حيث ظهر ذلك في الكتابة. ويلاحظ أن الكتابة "بصور" وبالسواحل الأفريقية، لها نفس شكل الأبجدية القديمة دون تغيير جوهري. ثم ظهر نموذج جديد من الكتابة سميت "بالكتابة البونيقية"، وتطورت عنها البونيقية المتأخرة أو البونيقية الحديثة.
اختلف الباحثون في تاريخ ظهور هذه الكتابة، فهناك من يرى أنها ظهرت بعد حرق قرطاج. لما تغلغلت هذه الكتابة بالداخل وأصبحت داخل الأقاليم المجاورة، مع تنقل سكان قرطاج إلى داخل الأراضي. وأصبحت تعرف بالكتابة البونيقية الحديثة أو المتأخرة. وهناك من يرى أنها ظهرت بعد إحياء قرطاج من جديد أي بعد قرن من تدميرها.
كتابة بونيقية [23]
ظهرت هذه الكتابة بعد إحراق "قرطاج" مباشرة وهناك نماذج تؤكد هذا. إذ اكتشف "بمعبد الحفرة" بمدينة قسنطينة أكثر من ثمان مئة نقيشة بونيقية، ونماذج من النقوش بالكتابة البونيقية، ونماذج من الكتابة البونيقية المتأخرة معاصرتين.
كتابة فينقيه[24]
خاتمــــــــــــــــــة :
تواجدت النقوش الليبية موزعة على المنطقة النوميدية من الحدود الحالية الجزائرية - التونسية إلى "وادي الصمام" مرورا "بجبال المجردة" و"الجبال القسنطينية" وحتى "جبال القبائل الصغرى". نلاحظ تكوُّن كتلتين: إحداهما توجد حول وادي وجبال "مجردة" والثانية حول الوادي الكبير "بومرزوق - الرمال". وتقل هذه النقوش كلما اتجهنا نحو الجنوب والغرب، أما في الشمال فهي شبه منعدمة [25].
ظهرت أبجدية الكتابة الفينيقية، وهي أمّ الأبجدية والكتابة البونيقية، لأول مرة في "فينيقيا" حوالي القرن الخامس عشر ق.م.[26] وانبثقت عن الكتابة السامية ويتفق المؤرخون القدامى على أن الفضل في اختراع الأبجدية يعود إلى الفينيقيين وأقدم النصوص الفينيقية هو النصّ الذي ظهر على "تابوت حيرام" حوالي 1200 ق.م.
وتتواجد النقوش البونيقية حصرا في المدن مثل قالمة وخاصّة في قسنطينة، التي تأتي في الدرجة الثانية بعد قرطاج، من حيث عدد النقوش البونيقية المكتشفة بها حتى اليوم. كما نجد بعضها بجوار مدينة قالمة، وفي المنطقة ما بين الطارف وسوق أهراس، وشمال وغرب مدينة قسنطينة. ويبدو أنّ استعمال الكتابة البونيقية استمرّ حتى القرن الأول الميلادي في بعض المدن الداخلية[27].
بالنظر إلى خريطة توزّيع هذه النقوش نستنتج أنّ كلاّ من الكتابتين الليبية والبونقية، كانتا متعايشتين بل إن البعض جعل الأولى (البونيقية) كتابة رسمية للمملكة النوميدية. كانت مستعملة في النصوص الإدارية والدينية والجنائزية، داخل بعض المدن آنذاك، فهي لغة التجارة والإدارة ولغة الديانة. والثانية (الليبية) كانت كتابة محلية، مرتبطة أكثر بالأوساط الشعبية والريفية منها، على وجه الخصوص. (*).
وقد حاول البعض بعد أنّ روّج لفكرة "البونيقية لغة رسمية في المملكة النوميدية" أن يجد مبررا لذلك بالقول : إنّ اختيار الملوك لهذه الكتابة ككتابة رسمية لم يكن عفويا، بل لغرض الانفتاح على العالم الخارجي. وللاحتكاك بالحضارات المعاصرة لهم، كالحضارتين الإغريقية والرومانية. ودليلهم هو وجود كتابات وأدوات حضارية بمدينة قسنطينة واردة من حضارات معاصرة لفترة الممالك النوميدية. أمّا الكتابة الليبية فكانت كلها تقريبا كتابات جنائزية، حاول البعض فكّ رموزها دون التوصّل إلى شيء ذي أهمّية، عدا استخراج عدد من أسماء الأعلام منها.
يلاحظ أيضا شبه انعدام للنقوش البونيقية، والانعدام التام للنقوش الليبية في المنطقة الساحلية. مع العلم أن بعض النصوص والاكتشافات الأثرية، تثبت وجود عناصر ثقافية بونيقية-قرطاجية. وأخرى نوميدية، معاصرتين لبعضهما في المدن النوميدية الساحلية، التي توجد بها مصارف فينيقية، ثمّ قرطاجية على التوالي. أين كانت اللغتان البونيقية والليبية متعايشتين، وهذا بشهادة "القديس أوغسطين" الذي قال: " إن سكان أرياف عنابه يتكلمون البونيقية بالإضافة إلى وجود من يتكلم لغة أباءهم، أي الليبية وكذا اللغة اللاتينية". فلماذا تكلم القديس أوغسطين عن ضواحي عنابه ولم يتكلم عن عنابه المدينة ؟ هل كان سكان عنابه في فترته يتكلمون اللاتينية ؟ بل إن البونيقية كان أحرى بها أن تبقى في ضواحي قرطاج ومنطقة الساحل التونسي ؟
في الأخير نسجّل أنّ وجود النقوش الليبية بكثافة وخاصة في منطقة القالة إلى طبرقة) أنظر أعلاه الخريطة رقم 2( هو دليل قوي على أنّ الكتابة الليبية ظلّت حيوية واستمرت في الاستعمال في الأوساط الشعبية حتى بعد سقوط المملكة النوميدية وهذا ما تبيِّنه كثافة هذه النقوش بتلك الربوع.
قائمة المصادر والمراجـــع:
Berthier A., L., R Charlier. (1952) .Le sanctuaire punique d’el Hofra à Constantine. Paris.
Berthier, A., (1983). La Numidie, Rome et le Maghreb. Paris.
Bertrandy, F., et Sznycer, M., (1987). Les Stèles punis Constantine. Note 10. Paris.
Camps, G., Massinissa ou le début de l’histoire. Libyca. T. VIII 1er semestre. 1960. p. 146. fig. 17.
Chabot, R.I.L. (1940). Les inscriptions publiées après 1940. dans R.S.A.C, et quelques inscriptions inédites.
Rebout R.S.A.C.T. XVIII et J. Bosco, R.S.A.C.T. XLVI. (1876-1877).
Saint Gsell. (1927) Atlas Archéologique de l’Algérie. feuille , VIII, IX, X , XI, XV, XVI, XVII, XVIII, XIX, XXV, XXVI, XXXVII, XXXVIII, LXVIII.
[1] Hérodote. (1960). Histoire. (Legrand, Ph., traducteur). T.IV. PARIS. P. 155-172.
[2] Chabot. (1940). Recueil des Inscriptions Libyques . R.I.L. N° 2-3 . Et les Inscriptions publiées après dans R.S.A.C, et quelques Inscriptions inédites.
(1)(2)Carte A, répartitions des inscriptions libyque=5 inscriptions.; Carte A1, répartition des inscriptions libyque = 1 inscription. A échelle plus grande la partie nord est où les inscriptions sont plus danses = inscription douteuse.
(3) Ibid., Carte A1 et A1
[3] Chabot, op. cit.
[4] G. Camps, Carte des tribus misiciri.
[5] Carte B .B1 répartitions des Inscriptions punique = 5 Inscriptions.; Carte B .B1 répartitions des Inscriptions punique = 1 Inscription. ; Carte B .B1 répartitions des inscriptions punique = ville.
[6] Saint, Gsell. (1927) .Atlas Archéologique de l’Algérie. feuille ; VIII, IX, X , XI, XV, XVI, XVII, VIII, XIX, XXV, XXVI, XXXVII, XXXVIII, LXVIII.
[7] Camps, G., (1960). Massinissa ou le début de l’histoire. Libyca T. VIII. 1er semestre. P. 146 fig. 17.
[8] Ibid. p. 248. fig. 26
[9] كرتن وكالمه (Krtn et Calama)
[10] Berthier, A. Charlier, A.R., (1952). Le sanctuaire punique d’el Hofra à Constantine. Paris. P. 3.
[11] Constantine : son passé son centenaire 1837-1937 voir carte Constantine R.S.A.C .Vol. LXIV.
[12] اتساع المدينة إلى الجهة الغربية والجنوبية الغربية، كما ضمّت الصخرة بعض الأحياء والمباني الأوروبية.
[13] Berthier et Charlier. Op. cit.,
[14] Rebout .T XVIII (1876-1877). P. 445 et J. Bosco. R.S.A.C.T. XLVI.P. 240-241.
[15] Berthier et Charlier. Op.cit., P. 2.
[16] Ibid. p. 3.
[17] Bertrandy, F ., et Sznycer, M ., (1987). Les Stèles punis Constantine. Paris.P.17 .Note 10.
[18] Berthier, A., Charlier, A.R., Op.Cit.,P. 1-2.
[19] R.S.A.C. T.XVIII .1876-1877. P. 306.
[20] Berthier, Charlier. Op, cit., P. 4.
(*) في اللاتينية Hadrumète ، ومنها اشتقّت الصيغة الفرنسية Hadrumète ، وفي كلتا الحالتين لا علاقة للاسم بحضرموت لأن هذا التوبونيم ليبي وهو مؤنّث آذروم ومعناه القرية.
[21] Berthier, A., (1983). La Numidie, Rome et le Maghreb. Paris. P. 169
[22] Carte B.
[23] Stéle Punique au Musée National de cirta : Constantine, N°3.C.P.659
[24] Internet . Stéle phénicienne. Image 2015.
[25] Ibid. Carte A.1.
[26] Berthier, Charlier.op. cit., p.2.
[27] بناء على نقيشة مكتشفة بقسنطينة وأخرى بقالمة تعودان للفترة الرومانية.
(*) هذا الاستنتاج يمكن أن يراجَع اليوم بعد أن تحررت الإرادة العلمية من إملاءات الأكاديميين الكولونياليين.