المدافن الميغاليثية وشبه الميغاليثية، بين الأصالة والتأثيرات الخارجية

 

د. مراد زرارقة

جامعة 08 ماي 1945 - قالمة

 

تضاربت الآراء حول فترة فجر التاريخ في شمال إفريقيا، سواء كانت من حيث التأريخ أو في مقاييس مفهومه ونطاقه الثقافي والحضاري، وهذا منذ بداية الأعمال والأبحاث في هذا المجال خلال القرنين الماضيين والتي ما زالت سائدة إلى وقتنا الحالي.

وسوف نستهلّ هذا الموضوع بتسليط الضوء بأمثلة وتوضيح لمفاهيم تتنافى والموضوعية في كتابة الوقائع التاريخية وحركية الشعوب، بسرد العديد من الأفكار الهادفة لخدمة قضايا استيطانية، اخذ فيها التراث التاريخي المادي قسطا كبيرا في هذه المسألة حيث شغّل بقناع علمي مغلوط تارة، وبأكاذيب وتناقضات مفضوحة تارة أخرى، لا تتماشى وحقيقة الشواهد المادية المعثور عليها.

فأوّل ما أثار انتباهنا قبل الخوض في الموضوع، يكمن في اختيار المصطلحات التي يعترف لها ج.كامبس بأنّها " ليست بريئة، ومنح تسمية يعني ا تّخاذ موقف. 

سأذكر على سبيل المثال مصطلح منهير (ARMENIR (Menhir ودولمن (Dolmen) البروطونيتي الأصل، فما يلفت الانتباه في المحافظة على هاتين التسميتين وسريانها واستعمالها على شمال إفريقيا من طرف الباحثين الفرنسيين المكرّس للنزعة الاستعمارية حيث كانت بمثابة عنصر هويّة يفتخر به. وقد أكّد Déchelette في دراسته سبب المحافظة على التسميتين المذكورتين ذواتي المدلول والأصل البروطوني كونهما كما يقول: " تمنحني الانتماء أكثر إلى فرنسا ، فمادام معرّف مصطلح عبارة "فجر التاريخ" « La protohistoire » يفكر بهذه الطريقة، ويصرّح علانية وكتابيا بهذه الكيفية والصيغة، فإنّ مجمع الوافدين إلى شمال إفريقيا الذين سلكوا مسلكه حيث شاركوا في مختلف الحملات العلمية المبرمجة، انسبوا المعالم الميغاليثية إلى سكّان بروطون، وسيلتيين، وغوليين،ودرويديين، أو بعبارة واحدة إلى جنس بشري وثقافات حلّت على شمال إفريقيا من أوروبا في ظل رواية العجز الطبيعي والجغرافي والتاريخي والحضاري حسب حدّ قول أشهر باحثيهم أمثال "قوتيي"، "كامبس" و"سينتاس".

ولفهم أهداف ما كانت تصبو إليه الأبحاث الخاصة بالتراث، والمتمثلة في تشغيله سياسيا واستراتيجيا في بلاد المغرب في الإطار المتعلق بفكرة انتساب العديد من أنواع المعالم الجنائزية بشمال إفريقيا إلى ثقافات ومجتمعات أوروبية التحقت منذ مدّة ضاربة في التاريخ ببلاد المغرب القديم عبر البحر الأبيض المتوسط مرورا بمضيق جبل طارق من جهة ومختلف الجزر المشكلة كهمزة وصل للجنوب الإيطالي، والسواحل التونسية من جهة أخرى، تطرق له الأستاذ الدكتور محمد البشير شنيتي في إحدى مقالاته إلى تحليل علمي لسبل ومناهج البحث التاريخي، والأثري الذي تم إبان الفترة الاستعمارية ونوجزه فيما يلي:

تأخذ خصائص المنهج الفرنسي في دراسة تاريخ الجزائر القديم بعين الاعتبار الوضع السياسي الراهن، أي وجود فرنسا في الجزائر، ويبحث عن المبررات التاريخية من أجل استحصال قوالب فكرية تخدم الوجود الفرنسي في الجزائر، وتدعّمه وتؤيده، وبمقتضى هذا الاعتبار انحصرت الدراسات التاريخية المتعلقة بتاريخ الجزائر القديم ضمن المحاور الأتية:

المنحنى الأول: التركيز على فكرة أن الجغرافيا السياسية لشمال إفريقيا جزءا لا يتجزأ من أوربا الغربية.

وقد حملت هذه الفكرة -التي لا يزال الضرب على وترها جاريا حتى الآن- شعار وحدة المتوسط الغربي، متجاهلة ما يوجد بين ضفتي المتوسط الشمالية والجنوبية من تباين وتناقض.

ولكي يتفادى هذا المنحنى ما يعترضه من صعوبات كان على المهتمين بهذا المجال أن يتجاوزوا ذلك بمفهومية جغرافية لشمال إفريقيا والجزائر خاصة، اعتقد غوتيي Gautier أنه وجدها فعبر عنها بالعجز الطبيعي، أي عدم صلاحية الإقليم الجنوبي للمتوسط ليكون أمّة مستقلّة.

المنحنى الثاني: ويتعلق بالدراسات الإثنية وكان يستهدف تثبيت فكرة القصور الذاتي -أي العجز العرقي للإنسان الضفة الجنوبية من حوض المتوسط (شمال إفريقيا)- وحاجته إلى معايشة الأجنبي والترعرع في ظلّه وهي الفكرة التي عبّر عنها "جوليان" بجملة مجازية سافرة هي "الظل الأبدي".

المنحنى الثالث: ويتمثل في إبراز الحقبة الرومانية المسيحية في شمال إفريقيا باعتبارها في مفهوم الدراسة الفرنسية، طبيعية في تاريخ المنطقة وبالمقابل حدث تجاوز مقصود للفترة الإسلامية أو تقليل من أهميتها لكونها انقطاعا غير طبيعي حدث في تاريخ البلاد (حسب نفس المفهوم).

المنحنى الرابع: يتجلّى في تجاهل التكوّن التاريخي الوطني وفي محاولة إيجاد مبررات له، ولا تزال بعض تيارات هذا المنحنى سارية في أذهان بعض الباحثين الفرنسيين حتى الآن، وفي مجالات مختلفة من الدراسة. منها ما يتضمنه مفهوم فجر التاريخ في بلاد المغرب لدى المهتمين منهم بهذا الموضوع". وقد وضّح "شنيتي" هذا المنهج بأمثلة من آراء النخبة الرائدة من الباحثين الفرنسيين الدارسين لمختلف فترات التاريخ القديم لشمال إفريقيا عموما والجزائر خصوصا وعلى رأسهم كل من Gsell و E.F. Gautier و Jullien Ch.A. وغيرهم.

ويضيف "شنيتي" بأنّ "قزال" عبّر أفضل تعبير عن المنهج الفرنسي عندما قال -بمناسبة مرور مائة عام على احتلال الجزائر- بأنّ الحملة على مدينة الجزائر المتبوعة بفتح ترابها قدّمت للمؤرخين مهام جديدة بل فرضتها عليهم. كما أفصح "قزال" أكثر عندما قال بأن معرفة الماضي ضرورية جدا لمتطلبات الحاضر. معبّرا عن الإرادة في قراءة تاريخ الجزائر، وتفسيره بما يتناسب والحاضر الفرنسي ويخدمه. فماضي الرومان بالجزائر في نظر قزال يقدّم العبرة للفرنسيين، ويرشدهم بتجنّب المزالق التي وقعت فيها المؤسّسات الرومانية في هذه البلاد.

كما عبّر قزال عن أسفه بمرارة عن الخطأ الكبير-في نظره- الذي وقعت فيه الكنيسة الإفريقية لأنها لم تستغل الظروف المواتية في توسيع انتشار المسيحية في البلاد، ولم تعمل على ترسيخ الدّين في قلوب الأهالي مثلما فعل الإسلام فيما بعد. وقد كرّر أسفه في كون القدر لم يأت لإفريقيا المسيحية بقديسين أمثال "مارتان" ليعملوا على تغلغل المسيحية وتعميقها في القاعدة الشعبية الريفية كي تتم وحدتها الدينية واللغوية هذه الوحدة التي تمّت بكل أسف -حسب رأيه- أيضا على يد بدو رحل انقضّوا على إفريقيا انقضاض الذئاب الجائعة فنشروا لغتهم العربية في الريف الإفريقي وهو ما صعّب على الفرنسيين فتح البلاد. ويعود قزال فيؤكّد قائلا بأن التاريخ يحدّد لنا مهامنا في الجزائر… . ولا يمكن للفرنسيين أن يكونوا أسيادا في كل مكان إلاّ إذا أخضعوا ريف الجزائر لاستيطان أوروبي كثيف، وهي تجربة نجح فيها الرومان في هذه البلاد لو أنّهم توّجوها بالتقرّب من الأهالي".

ويرى بهذه الإجابة م.ب. شنيتي بأنّ هذا التقرّب الذي يقترحه قزال على الفرنسي اقتداء بتجربة العرب المسلمين الذين اعتمدوا على المجتمع الريفي في غرس دينهم ولغتهم. وقد جدّد "قزال" مفهومية معيّنة تكون قوالب، ومنطلقات للأبحاث التاريخية المتعلقة بماضي الجزائر الفرنسية فالوجود الفرنسي يجب أن يستمر، ولكي يكتسب صفة الديمومة عليه أن يستفيد من تجارب المتعاقبين على حكم البلاد. هذا التعاقب الذي يحمل نفيا قاطعا للكيان الوطني الجزائري عبر التاريخ .

أمّا قوتيي فقد اقترح على المؤسّسة الاستعمارية الفرنسية في الجزائر أن تستفيد من التجربة الرومانية المتمثلة في ترسيخ النظام البلدي في الريف، وتوفّر له الأمن الضروري ....ليس صعبا إدراك مغزى نصائح قوتيي المعتمدة على التجربة الاستعمارية الرومانية فهو يدعو إلى الأخذ بالقوة التي كانت أساس تواجد الرومان، والذي كان زوالها نذيرا بخروج البلاد من الإطار الأوروبي، وهو إطارها الطبيعي في نظر أوجين ألبرتيني E. Albertini ولقد لاحظ هذا الأخير- على حد قوله- بأن الإطار الأوروبي لم يتوصل بسبب الفتح الإسلامي الذي قطع شمال إفريقيا عن ماضيها وأعاده الفتح الإسلامي الذي أدخل الجزائر ضمن البلدان المتحضرة.

واعتبر وليام مارسي W. Marçais بدوره الفتح الإسلامي عملا غير طبيعي وقال بأنه والتوسع التركي خلال القرن السادس عشر حالتان فتح فيها المشرق هذا الجزء من الغرب -أي شمال إفريقيا- ويعني بالغرب مصطلح أوروبا الغربية.

وقد حمّل هذا المفهوم الوندال مسؤولية مصير إفريقيا الرومانية إذ يعتبر كريستيان كورتوا Ch.Courtois أن الغزو الوندالي (الجرماني) لشمال إفريقيا قد أحدث خللا تسلسليا للتاريخ الإفريقي، وغير من مسيرته بل ساهم في وقف استمراريته. فتاريخ بلاد المغرب بهذا الاعتبار ليس سوى تاريخ للتعاقب الأجنبي، وأن تواصله تواصلا طبيعيا قد استأنف على يد الفرنسيين.

يأتي هذا التصريح موافقا لخطاب نابوليون الثالث Napoléon III حينما  زار الجزائر سنة 1865 ، الذي توجّه بخطاب إلى العالم العربي أثنى فيه على محاسن الاستعمار الفرنسي، حيث قدّم مثالا على بلاد الغول الرومانية la Gaulle Romaine والذي يرى بأن تصميمها يعدّ بالمرّة حضاري وفتح روماني.

وفيما يتعلّق بالمبررات الجغرافية استخلص قوتيي كجغرافي مختص، وقزال كمؤرّخ قدير بأن وضع البلاد الطبيعي لا يساعد على قيام كيان سياسي مستقل وموحّد كما أنه يحول دون نمو حضا رة متميزة بها.

فالامتداد العرضي بمحاذاة المتوسط، والتنافر الإقليمي بين جهات المغرب، وانعدام إقليم مركزي يكون محورا للبلاد، كما هو الشأن في فرنسا مثلا، كلهاعوامل تتناقض والوحدة الجغرافية التي يمكن أن تنشأ على أديمها أمّة وحضارة، وكأنّ هذه النواة المركزية التي ركّز عليها كل من قزال وقوتيي لا توجد إلا خارج شمال إفريقيا، وجدت في إقليم "لاتيوم" قديما، وتوجد في الحوض "الباريسي" حديثا، إن بلاد إفريقيا في نظر هؤلاء ت تّجه نحو الخارج وتنفتح عنه تعانق الأجنبي وتولي أقاليمها ظهرها لبعضها، وهو ما يفسّر ذلك التعاقب الأجنبي كما، يبرر في رأيهم، لماذا كان للمغرب دائما أسياد أجانب.

وكان على الجغرافيين أن يستمدّوا من طبيعة المناخ والتضاريس ما يدعّم فكرة الديمومة الجغرافية السلبية لبلاد المغرب، إذ استنتجوا من طبيعة هذا المناخ حتميّة قيام نمطين من المعيشة على الأقل.

نمط زراعي في السهول والمناطق الجبلية المنقطعة، ونمط رعوي متنقّل ما بين السهوب الفسيحة والمناطق الزراعية، وهو ما أدّى -في نظرهم- إلى تضارب في المصالح الاقتصادية للمجموعتين نتج عنه تطاحنا أبديا بين البدو والزراع، الأمر الذي تعذّر معه استتباب الأمن بين الطرفين على مرّ العصور وهو ما يفسّر ضرورة استعمال القوة لفرض الأمن، ونبّه الرومان لإنشاء أجهزتهم الدفاعية المحكمة، وانتهاجهم خط ة هجومية لتشتيت تجمّعات البدو في السهوب كلّما لاح لهم خطرها أي أن هذه الخصائص قد عبّرت عن الحاجة الطبيعية للحماية الأجنبية وللتعايش في ظل القوّة.

وقد تجاهلت هذه الاستنتاجات ما كان للتواجد الروماني من تأثير على تركيز تلك الثنائية في البلاد إن لم نقل أنهم ساهموا إلى حد كبير في خلقها. 1

ويضيف شنيتي بأنّ بريصون J.P. Brisson قد اعتمد في كتابه الاستقلالية والنصرانية على هذه المقولة الجغرافية المغلوطة، متخذا منها برهانا نفى به احتمال قيام تحالف طبقي، أو حتى الإحساس بالمصلحة المشتركة فيما بين السكان الأهالي أثناء الثورة الدوناتية والفلاّحين الريفيين (الدوارون) circum cellas خلال القرن الرابع الميلادي 2 . وقال بأن الوضع الإثني والجغرافي الذي كان الأهالي يعيشون ضمنه قد تعذر معه مفهوم الوطنية في إفريقيا، مضيفا بأن المثل الأعلى للبدوى آنذاك كان يتجلى في حرية التنقل، وبأن ما كان ينشده الفلاح الأجير الذي كان ينتظر العمل في مزارع المعمرين الرومان هو حرية الحصول على لقمة العيش وليس أكثر، ويضيف الدكتور شنيتي بأنّ المؤرخين استنتجوا من هذه المعطيات الجغرافية تفسيرات لا تقل تحاملا على تاريخ الأهالي مما سبق ذكره، من ذلك قولهم بأن هذه الثنائية قد جثمت على الحضارة في إفريقيا أن تكون حضارة المدينة والسهل المحيط بها، وهما الإطار الطبيعي الذي تركز فيه العنصر الأجنبي عبر العصور، ونتج عن ذلك بالضرورة تركز الأهالي في المناطق الجبلية وفي السهوب والصحراء منتظرين فرص ضعف المحتلين للانقضاض على الحدود واختراق المنشآت الدفاعية وتهديم الحضارة من الأساس.

وقد عبر قزال عن هذا المفهوم قائلا بأن تاريخ البلاد مزدوج، تاريخ الأهالي وتاريخ الأجانب الذين جاءوا واستقروا بينهم، وحاول كل منهم صبغهم بصباغته الخاصة، لكن الأهالي بقوا متمسّ كين بمقوماتهم الضاربة في ظلام الزمن لما قبل التاريخ، متحجرة في القرى المنعزلة وفي الخيام مع القطعان، عاجزة عن أن تكون مقومات أمّة. وقد ركّز الأجانب حضارتهم في المدن التي كان يبدو أنها ستشع على عالم البربر لكن البربر قاوموا تلك الحضارة، وظلّ التناقض قائما بين المدينة والريف العائم في وحشية كاملة.

وهكذا أفضى مفهوم المعطيات الجغرافية لدى المنهج الفرنسي إلى تقرير فكرة العجز الطبيعي للأرض وللإنسان الذي يحيا عليها، وتبرير ظاهرة الاستعمار على أنها حتمية ايجابية وجدت كي تساعد البلاد على تجاوز هذا العجز 2. وهذا ما ذهب إليه ج. كامبس في استعماله لعبارة البربر على هامش التاريخ. Les Bèrberes en marge de l’histoire.

إنّ تحليل وتشريح المنهج الفرنسي في دراسة تاريخ الجزائر القديم من طرف محمد البشير شنيتي وابرازه للأفكار، والأهداف الاستيطانية، والاستعمارية الفرنسية التي كانت تحاك بتشغيل مختلف القضايا والأمور لاسيما منها الجانب التاريخي، والحضاري، والإثني لوضع آليات واستراتيجيات كان المغزى منها الهيمنة وبسط النفوذ على قواعد مستمدّ ة من تجارب الماضي.

فتح هذا التحليل المنبّه في نفسيتنا رغبة لإعادة النظر في قراءة ما كتب حول المعالم الجنائزية الميغاليثية وشبه الميغاليثية وما كان يصحبهما من تأويل وتفسير وانتساب وتأريخ، لا يختلف منهجهما وأسلوبهما عن المنهج السابق والذي كان متداولا عند مختلف المؤلّفين والباحثين والمؤرخين أمثال  Albertini و E. Alazard و A. Bel و F. Braudel و G. Esquer و E.F. Gautier و G. Marçais و M. Rygasse و Ch. Tailliart و S. Gsell إلخ...

ونجد من خلال هذه المعطيات بأنّ منهج كامبس قد حذا حذو من سبقه من بني جلدته حيث ضرب على وتر مسألة الهوية والوحدة التي تعرض لها في أطروحته تحت عنوان: « Aux origines de la Berbèrie, monuments et rites funéraires protohistoriques de l’Afrique du nord » أين نجده قد شغل هذه المسألة التي منحها قسطا وافرا في مدخل رسالته لتحضير القارئ لقبول فكرة العجز التاريخي للبربر وانفتاحهم على ثقافات وعادات وطقوس وفدت عليهم من الضفة الشمالية للبحر الأبيض المتوسط عبر صقلية ومضيق جبل طارق. فوتر الوحدة - حسب رأيه- كانت غائبة منذ تشكيل ونشأة المجتمع البربري القديم Paléo-Berbères خلال العصر الحجري القديم المتأخر مع الحضارة المسماة من طرف أصحاب هذا المنهج بالابيرومورية والحضارة القفصية، وقد تناسى الباحث ما وقع في أوروبا مع تسلسل أربع حضارات خلال الباليوليتي الأعلى، وهي البيريغوردية، اولأ ورغناسية، اولسوليترية وأخيرا المجدلية. وكان يظن سابقا أنّ الحضارات الأربعة تتوافد على بعضها البعض على منوال خطي، لكن الأبحاث التي أجريت فيما بعد بيّنت أنّ البيريغوردية والأورغناسية متزامنتان بل تشكلان مركّبا صناعيا واحدا 1 . ومن هنا نتسائل لماذا لم تذكر مسألة الانفكاك واستقلالية الحضارات الأوربية الأربع في جهات متباينة غير موحّدة على الرغم من تزامنها التأريخي.

ويرى شنيتي حول مسألة التأثيرات الخارجية، أنه تمّ طرح قضايا في سياق تجاهل التكون التاريخي تتعلق بأصول السكّان، والبحث عن جذورهم خارج المغرب ولقد انقاد المختصّون فيما قبل التاريخ أمثال كامبس وراء الفرضية القائلة بأنّ سكّان المغرب انحدروا من أوروبا عن طريق إسبانيا وصقلية. وراح يدافع عنها بإصرار معتمدا على فكرة التشابه الموجود في الخصائص الجنائزية بين سكان الشمال الإفريقي، وسكان جزر المتوسط الغربي، خاصة ما تعلّق منها بأسلوب مقابر التلال الدائرية والمصاطب مفترضا أن أصولها أوروبيّة، وأنها انتقلت إلى شمال إفريقيا عن طريق هجرات بشرية. ولكن انتشار هذا الأسلوب في الدفن عبر الصحراء يؤكد أصوله الإفريقية وليس العكس.

ونعطي مثالا على انحياز ولا موضوعية كامبس بهذا الخصوص في عدّة محطّات، فقد حاول أن يشبه المصطبة ذات الذراعين على شكل حرف V التي عثر عليها فروبنيوس بمقبرة سيلا، بتلك المعثور عليها في كل من جزيرتي سردينيا وبريطانيا وفرنسا، وكأن التأثير الثقافي حلّ علينا من هذه المناطق الأوربية، إلا أن هذا النوع من المعالم الجنائزية موجودا ومنتشرا بكثرة بمنطقة الطاسيلي والهقّار، وذكرت لأول مرّة من طرف رابوردان Rabourdin1 الذي عثر بهذه المناطق على عيّنات عديدة لتلال جنائزية ذات الأذرع على شكل حرف V . وقيل الشيء نفسه عن الأنصاب الحجرية العمودية من طرف كامبس نفسه الذي يرى بأن البربر القدامى و لّوا ظهورهم إلى إفريقيا، وانفتحوا نحو البحر المتوسط (الشمال) بفضل الملاحة، مع احتفاظهم بعاداتهم الطقوسية الإفريقية. لهذا الأمر لم يقيم أنصابا حجرية (أنظر الصورة الموالية)، ولم ينحت تماثيل معبود الموت.

  1 02 7

  أنصاب حجرية حول مصطبة بمقبرة سيقوس

 

ويضيف كامبس بأنّه، بعد الانكسار الحاصل بين شمال إفريقيا، والمناطق الصحراوية بسبب الاضطرابات المناخية المتمثلة في الجفاف، استقبلت المناطق البربرية لشمال إفريقيا التأثيرات النافعة من وراء البحر المتمثلة في حلول الأنصاب الحجرية التي أخذ منها الشكل وليس الروح 1. وعلى إثر هذا التصريح الخاطئ والتمييزي، المتمثّل في استعماله لعبارة "التأثيرات النافعة من وراء البحر" التي توحي بأنّ كل ما صدر من السكّان المحليين يعدّ سلبيا وحقيرا.

حتى لو صدّ قنا بفكرة حلول هذا النوع من المعالم من أوروبا، فلا نرى حقيقة ودرجة هذه المنفعة المزعومة المتمثّلة في شكل النصب التي لم نجد لها تفسيرا واضحا. فعلى عكس ما جاء به، فإنّ الأنصاب الحجرية العمودية، التي نجدها في أماكن ومناطق عدة بشمال إفريقيا على شكل انتشار مكثّف في المناطق الصحراوية، تحيط بمختلف معالمها شبه الميغاليثية بطريقة فردية وأخرى جماعية. واذا ما صدّقنا رواية الحواجز الطبيعية القاهرة التي جعلها كامبس ذريعة في بسط نظريته حول الأصول الأوروبية لهذه الأنصاب فكيف وصلت إذن إلى مناطقنا الصحراوية؟

وتدعيما لفكرة الأصول المحلية للأنصاب الحجرية العمودية برؤية أثرية تكمن تموضعها على هيئة القبور التي تكون دوما موضوعة مع سلسلة الحلقات الحجرية الدائرية والسياجات المربعة المحيطة الغرف الجنائزية على كل من مقابر سيقوس، رأس العين بومرزوق، بووشّن وسيلا.

وليست كما هو الحال في أ وروبا، منصوبة في مجموعات مصطفّة حسب اتّجاهات معينة وكأنها غابة من الحجارة، فنجد على سبيل الذكر لا الحصر بإحدى مواقع الكرنك Carnac بفرنسا 1099 نصبا حجريا عموديا مقابل دولمن واحد يبعد عنهم بقليل. وان وجدت منفردة ومعزولة فهي أيضا تبعد عن مواقع الدولمن. وبتصفّحنا لمختلف عمليات الجرد للمعالم الميغاليثية بفرنسا خاصة في مناطق لوت LOT ، لم يوجد أيّ نصب حجري في حرمة هذا النوع من المدافن.

نرى من منظورنا أنّ موضع الأنصاب الحجرية على المقابر الجنائزية عندنا، لها بعدا جنائزيا وطقوسيا محضا، فهي بمثابة السلف لشواهد القبور الحقيقية المعروفة بكل ما تحمله من دلالات روحية ورمزية.

كما ذهب أصحاب نظرية التأثير السلتي، إلى تشبيه المعلم الطقوسي الثلاثي الأرجل المعروف برجل الصفية بمقبرة سيقوس والمغطى بمائدة حجرية مثيلة بتلك التي توضع على المصاطب، شبّه بأحد المعابد السلتية في أليزيا 1Alesia ، على الرغم من وجود التركيبة نفسها من المعالم في مناطق الأهقّار والتاسيلي إلى غاية النيجر وموريطانيا متمثلة في نمط القوائم الحجرية الثلاثية Les trilithes ، التّي ذكرت لأول مرّة أثناء القرن التاسع عشر، خلال بعثة p. Flatters والتي وصفها بمثابة مصطبة ذات ثلاثة أرجل، كان ارتفاعها يقدر ب 1.20 م عن سطح الأرض. كما وجدت أمثالها بالقرب من تلال جنائزية في منطقة تين تاوسيت 2 بصحرائنا. ومن هنا يحقّ لنا أن نتسائل أيضا عن سبب تك تّم أصحاب المنهج الفرنسي عن هذا النمط من العمارة الجنائزية والطقوسية الذي يمثّل شكله دليلا قاطعا يفضح نظريتهم المبنيّة على حلول الدولمن من شمال المتوسط وعدم انتشاره جنوب الأطلس الصحراوي.

ونجد بالإضافة إلى هذا أنواعا أخرى من المعالم الجنائزية التي نجدها ضاربة في التاريخ في مواقع عديدة وواسعة الإنتشار من شمال السودان شرقا إلى المحيط الأطلسي غربا، ومناطق جنوب الصحراء جنوبا إلى سواحل البحر الأبيض المتوسط شمالا، عابرة بذلك الصحراء التي لم تشكّل عائقا في تنقل البدو قصد القيام بأشغالهم المعهودة المتمثّلة في ممارسة مختلف نشاطاتهم التجارية والحيوية وما تلاها من هجرات كثيفة في مختلف الحقب والفترات التاريخية قبل ظهور وسائل النقل الحديثة. فمن الذي ينكر النشاط الحيوي الذي كان سائدا وعابرا لهذه الربوع والمناطق القاحلة خلال القرون الوسطى، من غات، وغدامس، وبلاد السودان إلى سجلماسة، ومختلف المدن الداخلية والساحلية بإمكانيات ووسائل نفسها كانت مستعملة منذ العصر الحجري الحديث، ولم تشكّل الصحراء بقساوة طبيعتها وبيئتها ومناخها حاجزا أو عائقا للحركية، والنشاط لعبور الأشخاص والممتلكات عبر التاريخ القديم والوسيط والمعاصر على السكان المحليين المهيئين بالفطرة وتلاؤمهم الطبيعي مع هذه البيئة والتضاريس والمناخ. وبهذه الرؤية المتمثلة في كون الإنسان إبن بيئته التي شغّلها الرومان لبسط نفوذهم وحماية مستعمراتهم وممتلكاتهم في شمال إفريقيا بجلب والاستنجاد بالفرق المساعدة Troupes auxiliaires من المقاطعات الرومانية ذات البيئة القاحلة والمشابهة لمثيلتها على مشارف صحرائنا لحراستها ومراقبة منافذها، من تمرد وثورات الأهالي المهجّرين والقابعين خلف النظام الدفاعي الشهير المعروف بخط الليمس، والذي كانت منضوية في صفوفه جند من سوريا على غرار الفيلق السادس الفراتي LEG VI FERRATA .

كما تكمن الإجابة عن أصحاب هذا المنهج في نوعيّة المعالم الجنائزية بمختلف أنماطها المنتشرة بأوروبّا وجزر البحر الأبيض المتوسط، بانّها ليست ممثّلة في شمال إفريقيا عدا بعض أوجه التشابه منحصرة في نوعين كالحوانيت الشرقية الأصل والتلال الجنائزية التي نجدها ضاربة في التاريخ في مناطقنا الصحراوية. أمّا الدولمن Dolmens فهي على الأقل غائبة في المقابر الميغاليثية للشرق الجزائري مثلها مثل المعالم الأخرى التي لا نجد لها أثرا عندنا مثل النوراغي Nuraghes والتورّس Torres والتلايوت Talayot والنافيتا Navetas ... المنتشرة في أوروبّا وجزر البحر المتوسّط بمعيّة الدولمن، فالتساؤل المنطقي الذي يطرح نفسه قبل كل شيء يكمن في أسباب ودواعي قدوم أو استيراد الدولمن دون غيره من المعالم الأوروبيّة المذكورة؟. هذا ما يستدعي إعادة النظر بجديّة في تحديد وابراز هويّة وأنواع المعالم الجنائزية الميغاليثية وشبه الميغاليثية المحليّة بشمال إفريقيا. فالمعالم التي مازال يطلق عليها في شمال إفريقيا مصطلح الدولمن، كنّا دوما نسمّيها بالمصاطب نظرا لشكل غرفها الجنائزية المصطبيّة الشكل.

فالمصاطب تختلف عن الدولمن الأوروبي من حيث الحجم والبنية والتركيبة العامة للقبر. فلها صبغة محلية عريقة تتمثّل من حيث العمارة في تطوّر الغرف الجنائزية الموجودة أصلا على هيئة صناديق حجرية تحت التلال الجنائزي والتي ما فتئت أن ترتفع نحو الأعلى بإضافة صفوف متراصّة للحلقات والسياجات الحجرية الدائرية والمربّعة والمستطيلة لتتطوّر بما يعرف بالبازينات أو الشوشات والتي مع ارتفاعها عن سطح الأرض ارتفعت معها هذه الغرف. فالنمط المعروف بالدولمن والذي نراه في أيّامنا بهذه الهيئة، لم يكن في القديم بهذه الكيفية بل كان مغروسا داخل فضاء البازينا ذات القاعدة الأسطوانية أو المدرّجة، ومع زوال صخور الحلقات المتراصّة الواحدة فوق الأخرى مع مرور الزمن بعوامل بشرية أو طبيعية، زالت بالضرورة التربة والشظايا المحصورة بين الغرف المصطبية والحلقات المذكورة وبالتالي تنكشف الغرف التي تعرّضت لهذه العوامل بالكيفية التي نراها عليها حاليا(أنظر الصو رة الموالية).

 2 02 7

 بفقدان الحلقات الحجرية الدائرية العلوية، ستصبح هذه البازينا بمثابة دولمن

 

كما يمكننا تشغيل نوعية المرفقات الجنائزية المصحوبة مع الموتى والمتمثّلة أساسا من أواني فخّارية جنائزية وطقوسية ومنزلية مصنوعة بالقولبة عموما وهي ذات طابع وأصول محلّية في بادئ الأمر، لتتأثّر فيما بعد بالثقافة البونية ومن بعدها الرومانية. ولم يتم العثور إلى غاية الآن على أيّة لقى ذات صلة بتلك المنتمية لحضارات ولأجناس سيلتية أو درويدية.

 

- قائمة المصادر والمراجع:

- شنيتي محمد البشير، تاريخ الجزائر القديم من خلال المصادر الفرنسية. مجلة التاريخ،رقم 20 ،الجزائر، 1985 .

- شنيتي محمد البشير، التوسع الروماني نحو الجنوب الجزائري وأثاره الاقتصادية والاجتماعية. مجلة الأصالة، 1977 ، عدد 41 .

- سحنوني محمّد، ماقبل التاريخ.د.م.ج. الجزائر، 1999 .

- Albertini E.; Alazard E.; Bel A.; Braudel F.; Esquer G.; Gautier E.-F.; Marçais G., Reygasse M.; Tailliart Ch. etc ... Histoire et historiens de l'Algérie 1830-1930 Paris, 1931. Collection du Centenaire de l'Algérie livre IV, P.4. Ouvrage collectif avec une introduction de Stéphane Gsell

- Camps G., Aux origines de la Berbèrie, monuments et rites funéraires protohistoriques de l’Afrique du nord. A.M.G., paris, 1961.

- Camps G., Protohistoire de l’Afrique du nord. Questions de terminologie et de chronologie. Travaux de L.A.P.E.M.O., 1986.

- Clottes j., inventaire des mégalithes de la France. 1er supplément à Gallia préhistoire C.N.R.S. Paris, 1977.

- Courtois, Ch. Les vandales et l’Afrique. AMG, 1955.

- Dechelette J., Manuel d’archéologie préhistorique, Celtique et Gallo-Romaine T. 1. Paris, 1908.

- Hachid M., Les premiers Berbères. Paris, 2002.

- Marc J.Y., L’architecture et son décor. Bibracte 21, Glux-en-Glenne. 2011.

- Rabourdin Lt., Les âges de pierre du Sahara central. Paris, 1884.

- Toutain j., Le temple dolménique de Bellona à Sigus et le sanctuaire dolménique d’Alésia. R.E.A.,T. XVII. Bordeaux, 1915.__