تقديم مجلة هيرودوت للعلوم الإنسانية والاجتماعية

fanter

أ.دمحمّدحسينفنطر

         يسعدني ويشرّفني تقديم هذه المجلّة التي أسّسها الأستاذ الدكتور عبد المالك سلاطنية، المختص في الآثار والتاريخ القديم والانثروبولوجيا. وقد أرادها مجلّة علمية ثقافية مفتوحة تعنى بنشر كل ما قد يمتّ بالصلة إلى مختلف العلوم الإنسانية والاجتماعية، من تاريخ وآثار والنقائش القديمة، وتراث بمختلف فروعه وأفنانه، وأدب ولسانيات وفلسفة وعلوم تربوية.

تستجيب المجلّة لشواغل القارئ في مختلف البلدان العربية وغير العربية، على اختلاف لغات البيئات. فهي علمية ثقافية تفيد الجميع وتتجاوب ورغبات الجميع، بعيدا كلّ البعد عن الدروب المطروقة وعن ضحالة المعتاد.

ولكن لماذا سمّاها مؤسّسها هيرودوت؟ قبل الإجابة عن هذا السؤال لا بدّ من الاعتراف بوجود مجلّة فرنسية تحمل نفس الاسم. هي مجلّة تعنى بنشر دراسات تتناول قضايا الجغرافيا والسياسة، فهي إذن لا تتقاطع مع المجلّة الجزائرية. ولئن سمّاها هيرودوت فذلك لأن لها مواصفات البحوث، التي تناولها أول مؤرّخ عرفته شعوب المتوسّط. فهو الذي وضع منهجية البحوث التاريخية التي عبّر عنها ابن خلدون أحسن تعبير حين قال إن التاريخ في ظاهره لا يزيد عن الإخبار ولكن في باطنه نظر وتحقيق. فالإخباريون يختلفون عن المؤرّخين، ذلك ان المؤرّخ يستنطق المخبرين ويسألهم ويناقش رواياتهم ويقارن بينها وبين روايات الآخرين. وقد يبتعد عن البتّ ويترك باب الحوار مفتوحا أمام السامع والقارئ، بل قد يدخل في جدل مع مخبريه. أمّا الإخباري فيقتصر عادة على رصد الروايات ليمرّرها إلى من يريدها دون ما نقاش.

وبالإضافة إلى ما سبق، لا يغيب على أحد أنّ صاحب المجلة أراد من خلال اسمها التنويه بهيرودوت باعث العلوم التاريخية والأنثروبولوجية.

ثمّ انّه أوّل من اعتنى باللوبيين سكان شمال إفريقيا الأصليين. فذكر القبائل بأسمائها مع تحديد مجال كلّ قبيلة ومواصفاتها من طرق عيش وعادات وتقاليد. لقد أفرد هيرودوت فصولا عديدة في السفر الرابع من تاريخه إلى اللوبيين. والمرجّح أنّه استقى أخبارهم ومعلومات أخرى كثيرة حولهم من مصر، ومن قورينة وهي المستوطنة الإغريقية التي أقامتها جالية نزحت من ثيرة في النصف الثاني من القرن السابع قبل ميلاد المسيح. وثيرة جزيرة إغريقية من جزر سيقلاديز الواقعة بين بلاد الإغريق وسواحل غربي بلاد الأناضول.

يبدأ المؤرّخ حديثه بتقديم قبيلة الأدروماشيد مشيرا الى تأثير المصريين فيهم، ولكنّهم بقوا حريصين على أصالة أزيائهم وطرافتها.كما نوّه بأناقة نسائهم اللاتي، كنّ تتحلين بخلاخل من الجلد، وتتركن شعورهن طويلة حتّى تراها تتبختر فرعاء.

كما أشار هيرودوت الى بعض التقاليد الخاصة بالزفاف، فيبدو أنّ اللوبيين كانوا ممّن يقدمون الجميلات من العرائس الى سيّد القبيلة أو من يقع اختياره ليتولّى السهر على شؤونها. ومن طرائف التقاليد لدى بعض القبائل أن ترى الرجل يحلق شعر النصف الأيسر من رأسه، ويترك شعر النصف الأيمن طويلا. ومن عادات بعض القبائل الاخرى صباغة أجسامهم بلون أحمر، يستمدّونه من بعض المواد المعدنية والطينية كالمغرى. وبقيت هذه العادة في الطقوس الجنائزية عند اللوبيين منتشرة الى زمن متأخّر.

وقد أثبتته الحفريات الأثرية التي نفّذت في مدافن بونية نوميديّة، تعود إلى أواخر الألف الأولى قبل ميلاد المسيح. ومن الأناقة وأساليب الإغراء أن تكون المرأة وركاء، فهل كانت المرأة النحيفة عندهم تستعمل وسائل لتعظيم عجيزتها؟ قد يكون.

وفي الفصول التي أفردها هيرودوت للتعريف بالقبائل اللوبيّة، ورد ذكر أسماء البعض منها كالمكسويين والزويقيين والجوزيين، وقبائل أخرى لا يتّسع المجال لذكر جميعها، بيّن أنها صنفان هما الفلاحين والرعاة. كما ذكر بعض الحيوانات البرية التي تعيش في ربوع لوبة كالجواميس والغزلان والفيلة والأسود والدببة وغيرها. ومن الزواحف ذكر أصنافا من الأصلال، ومن الطيور أشار إلى صنف من الصقور ذيولها بيضاء. من الغريب أن يذكر أصنافا خيالية كتلك التي لا رؤوس لها أو تلك التي عيونها على صدورها. أمّا الحديث عن النبات فهو مقتضب ومنها الريحان والسلفيوم.

وأيّا كانت المواصفات اللوبية التي ذكرها هيرودوت، فهي جديرة بالعناية لأنّها خلاصة ما تحصّل عليه من مصادر مكتوبة، أو من روايات شفوية يعسر الوقوف على مصادرها بكلّ دقّة.

ولكن الثابت أنّه لم يدخر جهدا للحصول عليها وتصنيفها ونقدها وتقديمها لقرائه. فلا غرو أن يكون له حضور في محفل الذين كتب لهم الخلود. أليس من الطبيعي أن تتأسّى به أجيال المؤرّخين، وكل الذين يعملون في مروج الإنسانيات كالتاريخ والأنثروبولوجيا والفلسفة والتراث والألسنية والأدب بفروعه والفن بمحاريبه وعلم النفس ومغاويره.

نرجو لمجلّة هيرودوت التألق والانتشار والتوفيق، على أن تكون مجلّة جامعية جامعة محكّمة، حريصة على المستوى العلمي الذي ترتضيه الجامعات ومراكز البحوث في العالم حتّى تضمن الإضافة والنّشر.

                                                                                                                                أ.د. محمّد حسين فنطر

                                                                                                          أستاذ متميّز بالجامعة التونسية

                                                                                                     ومدير عام سابق بالمعهد الوطني للتراث.