إستراتيجيـــــة تثميــــن التراث الأثري وترقيتــــه

طبقا لمبادئ النصوص التشريعية الوطنية

 (دراسة تقييمية) 

 

 

الفيلالي جازية

- جامعة بشار

 

مقدمة:

    يشكّل التاريخ الطبيعي والعمراني بكل محتوياته ومكوّناته الجيولوجية والمعمارية والحيويّة تراثا ثريّا ومتنوعا يتجلّى في كل العناصر الحيّة التّي تتمتّع بها بلادنا الجزائر على امتدادها الجغرافي، وتتمثّل تلك العناصر في العديد من المشاهد والمواقع الطبيعية والمعالم المتميّزة والفريدة التي نحتتها يد الطبيعة والإنسان عبر العصور والأحقاب الزمنية الجيولوجية، تضاريس، أودية، صخور كلسية، رملية وحتّ بركانية وأيضا مدن وقرى عريقة تربّعت على هذه التضاريس المتنوعّة.

إنّ هذا الثرا والتنوّع الأثري على عاتق الدولة بكل م ؤسساتها عبئا ثقيلا باتجاه حماية التراث وترقيته ليس على اعتبار بعديه الثقافي والحضاري، أو على اعتبار انّه يختزل تجاربه التاريخية وعمق وجوده في هذه البلاد فقط، بل على اعتبار أنّه يشكّل موردا هامّا في الحفاظ على ماض أمّة تعاقبت عليها حضارات، وعلى الدولة دعْم ذلك بتطبيقها للتشريعات القانونية وتجديدها لمواكبة التنمية الاقتصادية ، والاجتماعية مع متطلبات حماية التراث الأثري، وعلى هذا الأساس يمكن طرح الإشكالية على النحو التالي: ماهي الإستراتيجية الوطنية المعتمدة عليها في سياسة حفظ التراث الأثري وترقيته ؟ وإلى مدى و فّق التشريع الوطني في حماية هذا الإرث الأثري؟.

 

1.مفهوم تثمين التراث الأثري:

"تثمين التّراث الأثري" (la valorisation du patrimoine archeologique) هو في واقع الأمر، مُبتغى نهائي تسعى الدّول والهيئات المتخصّ صة في مجال التّراث الثّقافي بشكل عام، والتّراث الأثري منه بشكل خاص إلى تحقيقه من خلال قيامها بأربع عمليات تختلف في الأدا ،ً وتتكامل فيما بينها من أجل تحقيق المبتغى، ألا وهي:

أ(. الحصانة القانونية: والمقصود بها هو جرد، أو تسجّيل عناصر التّراث الأثري في قوائم خاصّة لجملة من الاعتبارات لعلّ من أبرزها على الإطلاق، إحقاق المسؤولية الجزائية على تصرّفات الأشخاص بطريقة متعمّدة، أو غير متعمّدة تجاه الآثار، وما قد ينجم عليها من نتائج بصرف النّظر إن كانت إيجابية، أو سلبية في هذا المقام.

ب( الدّراسة العلمية المستفيضة: والمقصود بذلك هو تخصيص الآثار بما تستحقه من السّ بر العلمي الدّقيق من لدن باحثين أكْفا ،ً وضرورة إبراز أهميتها على مختلف الأصعدة. شأن التّجربة الفرنسية التّي تجعل من "علم الآثار الوقائي" بموجب المادّة الرّبع عشرة ) 14 ( من القانون رقم 2001 – 44 المتعلّق بعلم الآثار الوقائي على أنّه: "خدمة عمومية، وأنّه جز لا يتجزأ من علم الآثار العام، يسعى إلى تحرّي، وحفظ، أو حماية الآثار عن طريق الدّراسة العلمية لمختلف البقايا المتضرّرة، أو المحتمل تضرّرها بفعل تمديد المشاريع التّنموية المعاصرة على حسابها في المستقبل القريب" ؛ وذلك من قمبل مؤسساته الخاصّة، مثّلة في " المعهد الوطني لبحوث علم الآثار الوقائي" على وجه الدّقّة والتّحديد، الذي أُسندت له مهّمة الاعتنا بجزئية صغيرة من جملة مكوّنات التّراث الأثري الفرنسي، ألا وهي جزئية تحرّي ودراسة الآثار المطمورة تحت سطح فضا اًت جغرافية مُرشّحة لاستيعاب مشاريع تنموية معاصرة، كمدّ خطوط السّكك الحديدية، وشقّ الطّرقات السّيارة، وما إلى ذلك.

ج( الصيانة والترميم: والمقصود بذلك هو إصلاح الأضرار الميكانيكية اللاّحقة بالآثار كالكسور، والانشطارات، وإتمام الأجزا النّاقصة عن طريق عمليات التّرميم، وتعاهدها بإجرا اًت الصّيانة الدّورية لمنع أخطار استفحال الأمراض الفيزيو – يميائية، والحيوية التّي قد تعتريها جرّا الإهمال، وتفاعلها السّلبي مع عناصر البيئة المحيطة بها.

د( التأهيل والدّمج في الحياة المعاصرة: وهو في واقع الأمر إجرا انتقائي ليس بالوسع تعمّيمه على جميع البقايا الأثرية، مفاده إحيا الوظيفة الأصلية للأثر، أو تخصّيصه بوظيفة جديدة، تضمن له حقّ الاستمرارية، والعيش في كنف التّمدن المعاصر بانسجام، وهو ما يتطلّب تعميم آليات التّأهيل الوظيفي على الأثر والمحيط البيئي القريب منه على حدّ سوا ،ً وليس الاكتفا بتأهيل واحد منهما فحسب، كما قد يتوهم البعض  .

 

2. تطوّر البنية التّشريعية الوطنية المسيّرة للتّراث الأثري:

خضع التّراث الأثري الوطني في بادئ الأمر لأحكام قانون المحتلّ الفرنسي، بد بأحكام المرسوم، المؤرّخ في 14 سبتمبر 1925 ، "المتعلّق بالآثار التّاريخية الموجودة في الجزائر"، الم ره من أقدم القوانين الفرنسية المسننّة في هذا الشأن، ألا وهو "قانون المعالم التّاريخية"، الصّادر بتاريخ 31 ديسمبر من عام) 1913 (م 3؛ مرورا بأحكام "القانون المتعلّق بحماية المعالم التّاريخية، والمواقع الطّبيعية ذات الطّابع الفنّي، والتّاريخي، والعلمي، والأسطوري، والجمالي"، الصّادر في الثّاني مايو من__ عام ) 1930 (م 4 ؛ وانتها بأحكام"القانون المتعلّق بتنظيم الحفريات الأثرية"، المشهور باسم منشئه لدى المختصين، ألا وهو قانون "جيروم كاركوبينو" ) JEROME CARCOPINO (* ، الصّادر بتاريخ 27 سبتمبر) 1941 ) 5 . وذلك بموجب أحكام المرسوم "المتضمن إلزام الجزائر تطبيق القانون الصّادر بتاريخ 27 سبتمبر 1941 "، المؤرّخ في 9 فبراير ( 1942 (م، المدعم بأحكام المرسوم المؤ رّخ في 10 سبتمبر 1947 م، "المتعلّق بتنظيم الإشهار، ولصق الإعلانات، ونصب اللاّفتات في الجزائر"؛ وكذا القرار المؤرّخ في 26 أفريل) 1949 (م، المعدّل، والمتمم، و"المتضمن إنشا دوائر إقليمية في الجزائر لرقابة المراكز الأثرية العائدة إلى فترة ما قبل التّاريخ"  .

اكتفى المشرّع الجزائري أثنا الاستقلال تمديد العمل بالقانون الفرنسي في هذا الشّأن وإلغا منه الأحكام المتنافية مع مفهوم سيادة الجزائر كما سلفت الإشارة من قبل، وذلك بموجب أحكام القانون رقم 62 - 157 المؤرخ في 31 ديسمبر ) 1962 ،) "المتعلق بتمديد مفعول التشريع الفرنسي المتضمن حماية النصب التاريخية ضمن المقتضيات غير المخالفة لأحكام السّيادة الوطنية"  .

وفي سنة) 1967 (، أُسندت مهمّة صياغة أوّل قانون للتّراث الأثري الوطني في ظلّ الاستقلال إلى عالم الآثار الفرنسي "ألبار فيفريه" ) ALBERT FEVRIER ( ** ؛ والذي اكتفى بالرّجوع إلى النّصين التّشريعيين الفرنسيين المذكورين من قبل )نصّ قانون 1930 ، ونصّ نظيره قانون 1941 (، وإعادة صياغتهما في نصّ جديد، قوامه مائة وثمن وثلاثين ( 138 ( مادة ، أُفرغت في وعا الأمر رقم 67 - 281 المؤرخ في 19 رمضان عام 1387 ه الموافق ل 20 ديسمبر 1967 م، "المتعلّق بالحفريات وحماية الآثار والأماكن التّاريخية والطبيعية"، واستمرّ العمل به إلى غاية صدور القانون 98 – 04 ، المؤرخ في 20 صفر 1419 ، الموافق ل 15 يونيو 1998 م، الذي مازال العمل قائما به إلى اليوم  والذي جا كمحاولة لتحديث الأمر الآنف الذكر، إذا ما اُستثنيت عملية تقزّيم التّراث الأثري الذي كان يتمتع من قبل بقانون خاص، والاستنقاص من أهميته الحضارية والثّقافية بإخضاعه لأحكام قانون مشترك يجمع بينه، وبين مختلف مقوّمات التّراث الثّقافي بنوعيها المادّية، واللاّمادية، دون ربطه بقوانين التّعمير، وقوانين تهيئة الفضا اًت الجغرافية على نحو موثّق، كما تتطلّبه التّشريعات الحديثة في مجال التّنمية المعاصرة، رغم محاولات التّلميع المحتشمة، التّي أتت بها النّصوص التّشريعية الشّارحة، والمتممة له، والمتواصلة في عملية الصّدور بشكل متقطّع بين الفيّنة والفيّنة الأخرى إلى اليوم.

 

3. دراسة تقييمية للهيكلة التنظيمية الجارية في مجال حماية التّراث الأثري:

أ(. التشريع: يبدو من أوّل قرا ةً متأنّية لقانون ) 98 - 04 (، ذلك التّأخّر الواضح المسجّل على مستوى منظومة التّشريع الوطني المعتمد في مجال تسيير التّراث الأثري، وتأطير مؤسساته التّنفيذية على الرّغم من حداثة زمنه نسبيا بدليل اقتصاره على مراجعة أحكام الأمر ) 67 – 281 ( على ضو التّغيرات الظّرفية بداخل الوطن آنذاك، دون الأخذ بعين الاعتبار، ما جدّ في التّشريع الأممي، المتعلّق بتسيّير التّراث الأثري وتثمينه، كاتفاقية حماية ال تراث العالمي الثقافي والطبيعي، الصادرة عن "اليونسكو" بتاريخ 21 نوفمبر 1972 ، و"الميثاق الدولي لإدارة التراث الأثري"، الصادر عن "منظمة المجلس الدّولي للمعالم التّاريخية والمواقع الأثرية" (ICOMOS) عام 1990 على سبيل الذكر لا التّخصيص والحصر. هذا من جانب، ومن جانب آخر الإبقا على التّبعية المنهجية للأمر ) 67 – 281 (، الذي صادف تاريخه إنها مرحلة تعاون الإطارات الفرنسية ببلادنا في شتّ القطاعات بما فيها التّنقيب الأثري، كظرف استثنائي طارئ، والذي خُصص له هذا الأمر، المهندس على منوال "قانون كاركو بينو عام ) 1941 (" من طرف مواطنه، وزميله في التّخصص، "ألبار فيفرييه" ( ALBERT FEVRIER ( الذي كان مسؤولا عن مصلحة الآثار ببلادنا آنذاك. وذلك بغية ضبط المسؤولية الجزائية حيال التّراث الأثري من خطرين أساسيين هما: التّنقيب الأثري الهاوي، أو الفوضوي؛ وآخرهما وقف زحف المشاريع التّنموية على حساب المواقع الأثرية، والمعالم التّاريخية المعروفة آنذاك من خلال تأمين الحماية القضائية في ظلّ غياب المؤسسات التّقنية المؤهّلة، واليد البشرية المحترفة لحماية وتثمين التّراث الأثري الجزائري عمليا. وهو ما نجم عنه بنا سياسة تقليدية، محدودة الأفق في مجال حماية التّراث الأثري وتثمينه، كما يمكن أن يُلمس بوض وح في عدم ربط هذا القانون ببقية القطاعات المتقاطعة معه من جهة، ومن جهة ثانية، الإبقا على فكرة مركزية الإدارة، والنّشاط الموجه، الموروث عن النّظام الاشتراكي، الذي تخلّت عنه البلاد منذ مستهلّ عقد التسعينات من القرن الماضي، وهو تحوّل عميق لم يؤخذ بعين الاعتبار أثنا سنّ قانون ) 98 – 04 ( في نهاية تلك العشرية. ومن ثم العمل بسرعتين مختلفتين فيبقية النّصوص، الشّارحة لمضامينه، والمكملة لبنائه الإداري والتّقني، كما سيبدو بشي من التّفصيل في العناصر الفرعية المتبقية أدناه.__

ب(. البناء المؤسساتي: شهدت الجزائر ميلاد مؤسستين جديدتين في مقابل حلّ مؤسسة كانت قائمة من قبل على إثر اعتماد قانون ) 98 – 04 (، هي: إنشا "الديوان الوطني لتسيير واستغلال الممتلكات الثقافية المحمية"، الذي حلّ محلّ "الوكالة الوطنية للآثار وحماية المعالم والنّصب الّتاريخية"، المستحدثة عام ) 1987 (م، وذلك كمؤسسة اقتصادية ذات طابع تجاري، كما يُستشف من مضمون مرسومه الإنشائي، ومؤسسة إدارية غير مؤهلة حتّ لتسّيير جز من التّراث الأثري الذي كانت تشرف عليه "الوكالة" من قبل في حقيقة الأمر، ألا وهو جز التراث المحمي، واستغلاله، دون بقية مكونات ال تراث الأثري الأخرى، التّي تعاني اليوم المصير المبهم في غياب مؤسسة بديلة للعناية بها، والمحافظة عليها. و"المركز الوطني للبحث في علم الآثار" الذي باشر نشاطه بشكل فعلي منذ عام ) 2008 (م من غير أن تتّضح نتائجه، ولا دوره حتّ اليوم على الرّغم من تحلّيه بالصّبغة الأكاديمية من الوجهة القانونية، وبقا وصايته تحت وزارة الثّقافة بمفردها، دون إشراك وزارة التّعليم العالي والبحث العلمي في ذلك، كما تقتضيه الأعراف الدّولية في هذا الشّأن؛ وبذلك فهو هيكل بلا روح.

ومهما كان من أمر، فالجزائر بحاجة ماسّة اليوم إلى إعادة هيكلة مؤسسات تراثها الثّقافي، وفق رؤية واعية، ومتأنّية، بعيدة عن ضغوط الظّروف باعتبار أنّ كلّ ما حصل في الجزائر حتّ اليوم، كان منطلقه دواعي الظّروف الآنية القاهرة، ومن ثمّ اقتراح حلول عاجلة، إمّا لتقديم حلّ استعجالي آني، سرعان ما تثبت التّجربة فشله، وإمّا تقديم مسكن ظرفي في إطار سياسة الهروب إلى الأمام، والقفز في أحضان المجهول.

ج(. التمويل: سبقت الإشارة من قبل إلى أنّ قانون ) 98 – 04 (، يسير بسرعتين مختلفتين، فمن جهة نجده يؤرّخ لعهد جديد، ألا وهو تحوّل الجزائر من سياسة الاقتصاد الموجّه )النّظام الاشتراكي( إلى سياسة الاقتصاد الحرّ، أو اقتصاد السّوق، القائم على المنافسة، والفعّالية؛ ومن جهة لم يؤسس لمبادئ الخوصصة بشكل واضح في مجال تسيّير التّراث الأثري، كإمكانية استحداث، وإشراك المؤسسة العلمية الخاصّة في مناقصات التّنقيب الأثري؛ أو استحداث مؤسسات اقتصادية، كمؤسسة "الدّيوان"، والإبقا في عملية تمويلها، وتسييرها على نظام الاقتصاد المخطط؛ وعدم التّفكير في تقنين إتاوات ورسوم على المرقين، والمستثمرين لتمويل مختلف نشاطات البحث الأثري، وتخصيصه بصندوق وطني مستقلّ، جزا على الأضرار، والأخطار التّي يجرّونها على الآثار في خضم إنجاز مشاريعهم التّنموية، والاستثمارية المختلفة، مثل ما هو الحال عليه في قانون البيئة مثلا.

أحد الأسباب الرّئيسية في فشل المؤسسات القائمة على أدا المهام المنوطة بها بصرف النّظر عن تسمياتها، وطابعها الوظيفي إن كانت ذات صبغة إدارية خدماتية مثل ما حدث مع "الوكالة" من قبل، أو مؤسسة اقتصادية تجارية، كما هو الحال جارٍ اليوم مع "الدّيوان"، أو حتّ مؤسسات أكاديمية، مثل ما هو الحال عليه مع "المركز" الآنف الذكر. فهذه المؤسسات المتنوّعة تتلقى ميزانية التّسيّير من خزينة الدّولة في مقابل محدودية مداخيلها الخاصّة، التّي لا تتعدى حدّ الرّمزية في مقابل افتقادها لميزانية البحث، أو النّشاط، وعزوف الدّولة عن تدبّر مصادر تموّيل أخرى، تخفّف عب التّمويل الثّقيل على عاتق الخزينة العامة، التّي لم تأخذه بعين الاعتبار أصلا.

وبذلك يمكن القول بأنّ السّياسة الوطنية المنتهجة في مجال حماية التّراث الأثري وتثمينه، تفتقد للتّمويل على الرّغم من أنّ قانون ) 98 – 04 ( قد نصّ في المادّة السّابع والثّمانين ) 87 ( منه على استحداث صندوق وطني لتموّيل عمليات التّراث الثّقافي بشكل عام، دون وضع له شبكة واضحة المعالم لتحصّيل مداخيله، ووجهات إنفاقها 9، الشي الذي جعل من مؤسسات القطاع حتّ اليوم، مجرّد مؤسسات خدماتية ذات طابع إداري بصرف النّظر عن العنوان البرّاق الذي تتقمّصه.

د(. المتابعة والرقابة: يبدو من صورة البنا المؤسساتي القائم بشكله المهلهل في مقابل اعتماد نظام إداري مرك زي، قائم على الارتجال في معظم الأحيان، بعيدا عن التّسيير العقلاني، والقرا اًت الاستشرافية المستقبلية للأوضاع الدّاخلية والخارجية، كلّها عوامل مساعدة على إلغا مثل هذه المؤسسات النّاجعة، التّي لا يوجد لها وجودا في بنية السّياسة الوطنية القائمة، والاستعاضة عليها بعمليات التّفتيش الصّوري، التّي عادة ما يقوم بها بعض إطارات الوصايا في بعض الميادين، دون بعضها الآخر، مثل تتبع وقائع الجرد في المتاحف الجزائرية، وتتبع عمليات استكمال مشاريع التّرميم، دون إمكانية تقييم هذه الأخيرة من النّاحية الفنّية على سبيل المثال لا التّخصيص والحصر.

 

4. مجال العناية بالتكوين البشري وتحسين أدائه الوظيفي:

هناك إفراط كبير فيما يبدو على مستوى مسألة تكوين الإطارات البشرية، وصقل خبراتهم الوظيفية بدورات تكوينية بين الفينة، والفينة الأخرى إلى درجة أنّ التّدرّج في المناصب التّقنية المتخصّصة كالانتقال من منصب "ملحق بالحفظ والإصلاح" إلى منصب "محافظ التّراث الثّقافي" بوصفها مناصب خاصّة بموظفي التّراث الثّقافي دون سواهم، لا تتمّ عن طريق الاختبار المهني الميداني الفعلي، وإنّما بالاعتماد على أساس المسابقة الإدارية، التّي جعلت من تلك المناصب المتخصّصة )محافظ للتّراث، ومحافظ رئيس، ومفتّش التّراث، وغيرها( مجرّد ترقيات إدارية، مفرغة من مضمونها المهني المتخصص  .

وهو ما يؤكّد بوضوح ترسّخ مبدأ الظّرف الاستثنائي، الذي شهدته الجزائر عشية رحيل المتعاونين الأجانب بكثرة نهاية عقد ستينات القرن الماضي، قبل استكمال تكوين الإطارات الجزائرية على النّحو المطلوب، ذلك الظّرف الذي لم يعد له اليوم، أدنى مبرّر، كما هو مكرّس في القرار الوزاري المشترك المذكور، الذي لا يتحرّج من منح تلك المناصب الخاصّة مجّانا تحت غطا "الشّرعية الثّو رية" لأشخاص غير جديرين بها 11 ، وهو ما يكرّس مبدأ المحسوبية بشكل سافر، التّي لا تتماشى كما هو معلوم مع منطق اقتصاد السّوق، القائم على عامليْ الكفا ةً، والمنافسة الحرّة في هذا المضمار، وهو ما لا يُساعد البتّة على إعداد إطارات أكفا ،ً وتحسين مردودهم الوظيفي بالم رّة.

 

5. تحديات التراث الأثري الوطني في الوقت الراهن:

ومهما كان من أمر، يبقى أمام التّراث الأثري اليوم تحدّيات عديدة، لعلّ من أبرزها على الإطلاق ما يلي:

أ(. تحديات تقنية: تتمثل كما سلفت الإشارة من قبل في أولوية إنها عمليات الجرد الأثري لمختلف عناصره الثّابتة والمنقولة؛ وضرورة إنجاز الخريطة الأثرية الوطنية بنوعيها )الورقية، والافتراضية( في أقرب وقت ممكن. وهو في واقع الأمر عمل جبار يتطلّب رصد إمكانات مادّية معتبرة، وحشد طاقات بشرية كبيرة للعمل جنبا إلى جنب على مدار عقود طويلة باعتبار أن القطر الجزائري بوصفه اليوم أكبر بلد في القارّة الإفريقية من حيث المساحة بعد تقسيم السّودان مؤخّرا من جهة، وتأخّر الجزائر في هذا الشّأن عن الرّكب الدّولي بأكثر من نصف قرن بلا مبالغة من جهة ثانية.

ولو أنّ الوصاية على القطاع قد بدأت في الآونة الأخير بمباشرة بعض المجهودات المحتشمة، عبر قنوات "الديوان الوطني لتسيير واستغلال الممتلكات الثقافية المحمية" الذي شرع في تنفيذ محاولة تجريبية مع فريق أثري إيطالي، أفضى إلى مسح مساحات كبيرة من ولاية الطّارف سنة ) 2009 (، وولاية سوق أهراس سنة ) 2010 (، ونأمل بأن تتواصل العملية السنّة الجارية لإنها مسح ولاية جديدة ومن ولايات أقصى الشّرق الجزائري.

ب(. تحديات تنظيمية: فقد بيّنت الممارسات الميدانية بوضوح قصور التّشريع المتخصص المعمول به اليوم في توفير الحماية الكافية للتّراث الوطني، وعجزه عن مسايرة التّغيرات الحاصلة في هذا المجال على الصّعيد الدّولي، كاستحالة استيعابه ل "علم الآثار الإنقاذي" من قبل، و"علم الآثار الوقائي" اليوم، ممّا يتطّلب مراجعة دقيقة، وإعادة النّظر في أشيا كثير فيه، ليس هاهنا مكان لمناقشتها.

أضف إلى ذلك ثبوت فشل المؤسسات السّاهرة على ترقية التّراث الأثري وتثمينه ميدانيا، كما يمكن أن يُستنتج من بقائها "مؤسسات خدماتية ذات طابع إداري" على الرّغم من التّسميات البرّاقة المسماة بها أحيانا، التّي يفهم منها على أنّها مؤسسات تقنية عملية، وكذا كثرة تغييراتها مقارنة مع قصر عمر الدّولة الجزائرية المستقلّة نسبيا من جهة أخرى، ناهيك عن تداخل صلاحياتها فيما بينها، وبين المؤسسات النّاشطة معها في قطاعات أخرى على الصّعيد المحلّى.

ج(. تحديات التنمية الشاملة: وتتمثّل أساسا في الشّرخ العميق القائم بين السّرعة البطيئة جدا لتقدم الأبحاث الأثرية ميدانيا عبر مختلف أرجا التراب الوطني بالمقارنة مع نظيرتها سرعة المشاريع التّنموية، الجارية بسرعة الضّو ،ً شأن مشاريع قطاع الأشغال العمومية خلال المخطط الخماسي الفارط، والمخطط الخماسي القائم ) 2010 – 2014 (م، حيث عرف فتح ورشات كبيرة في مجال تحديث الشّبكة الطّرقية بالجزائر، مثل إنجاز مشروع الطريق السّيار "شرق – غرب"، والطريق السريع الآخر للهضاب العليا الذي هو في طور الإنجاز، والطرق السريعة الكبرى الرابطة ما بين الطريق السيّار والمراكز الحضرية لأربع وثلاثين ) 34 ( ولاية، والطرق الوطنية ال رابطة بين الشمال والجنوب، وكذا التحويل التّدريجي للطريق العابر للصحرا )طريق الوحدة الإفريقية سابقا( إلى طريق سريع  .

وهي كما يبدو للعيان، مشاريع تنموية ضخمة من شأنها المرور على آلاف المواقع الأثرية المطمورة تحت سطح الأرض بصرف النّظر عن حجمها، وأهميتها التّاريخية والحضارية، وإمكانية إلحاق بها الضّرر، أو إتلافها بالكامل من غير أن يكون في المتسع فعل شي في ظلّ قصر نظر السّياسة الوطنية الرّاهنة، المنتهجة في مجال ترقية التّراث الأثري، وتثمينه.

د(. انعدام إستراتيجية واضحة المعالم في مجال وقاية التّراث الأثري وحفظه: حيث يُلاحظ على بٌنية السّ ياسة الوطنية في هذا المجال، نزوعها للتّكيف مع الأحوال الظّرفية، دون التّفكير بعمق في نظرة استشرافية تُقعدال تراث الأثري في موضعه الصّحيح من موضع بيئته العامّة، سبب استمرار الحلول التّرقيعية، القائمة بين الفينة والفينة الأخرى، والتّي لا تحلّ المشكل في واقع الأمر بقدر ما تُرجيه إلى فترة أخرى، وتعقيد معضلته أكثر، فأكثر ليس إلاّ.

 

خاتمــــة:

ما تمّ استنتاجه من خلال العرض السابق أن هذه السياسة الوطنية لم ترق بعد للمستوى التطلع، بحيث تركت أثرا واضحا على مصير التراث الأثري الوطني ، خاصّة أنّه وليومنا هذا لم تنته بعد من الإسراع في إنها الخريطة الأثرية الوطنية ، إضافة إلى تأخّر البحث الأثري في مجال التراث الأثري كالصيّانة والترميم، علم المتاحف ، الحفظ والوقاية، ومن هذا النطاق على الدولة الجزائرية مواكبة العصر خاصّة وأننا في عصر التطوّر الاقتصادي والاجتماعي، من خلال تبنّيها لسياسة جديدة في مجال حفظ التراث الأثري وترقيته، وتحسين الأدا الميداني، و وضع نظم تشريعية جديدة تتشارك فيها مختلف المصالح من التهيئة الإقليمية ، مطويري العمران، والمعنيين بالمشاريع التنموية.

 

المصادر والمراجع

الرزقي شرقي، مبادئ أساسية لإرسا دعائم مدرسة وطنية في التّرميم، مقال منشور في مجلّة: دراسات تراثية، منشورات مخبر البناً الحضاري للمغرب الأوسط )الجزائر(، جامعة الجزائر، العدد ) 01 ،) 2007 .

الوكالة الوطنية للآثار وحماية المعالم والنصب التاريخية ، نصوص ونظم تشريعية في علم الآثار وحماية المتاحف والأماكن والآثار التاريخية، تقديم عبد الرحمن خليفة، الجزائر، 1991 . قانون 98 – 04 ، المؤرّخ في 20 صفر عام 1419 ، الموافق 15 يونيو سنة 1998 ، يتعلّق بحماية التّراث الثّقافي، في: الجريدة الرّسمية للجمهورية الجزائرية الدّيمقراطية الشّعبية، العدد 44 ، 1998 . الجريدة الرّسمية للجمهورية الجزائرية الدّيمقراطية الشّعبية، العدد 44 ، 1998 ، العمود 1 . قرار وزاري مشترك، مؤرّخ في 16 رجب 1431 ، الموافق 29 يونيو 2010 ، المحدّد لإطار تنظيم المسابقات على أساس الاختيارات والامتحانات والاختبارات المهنية، للالتحاق بالرّتب التّابعة للأسلاك الخاصة بالثّقافة"، في: الجريدة الرّسمية للجمهورية الجزائرية الدّيمقراطية الشّعبية، العدد 55 ، 2010 ، العمود 1 - 19 . المادة الثّالثة ) 03 ( من المرسوم الوزاري المشترك، المذكور آنفا، في: الجريدة الرّسمية للجمهورية الجزائرية الدّ يمقراطية الشّعبية، العدد 55 ، 2010 ، ص 11 العمود 2 .

وزارة الأشغال العمومية، خطة عمل وبرامج قطاع الأشغال العمومية، تقرير ملخص حصيلة البرنامج الخماسي ) 2010 – 2014 (، نوفمبر 2009 .

Loi N° 2001–44 du 17 Janvier 2001, relative à l’Archéologie préventive, Article 14.

Loi du 31 décembre 1913 sur les monuments historiques,In: Journal officiel de la république française, du 04 Janvier 1914.

Loi du 02 mai 1930 relative à la protection des monuments naturels et des sites de caractères artistique, historique, scientifique, légendaire et pittoresque, In: Journal officiel de la République Française, du 04 mai 1930.

Loi du 27 septembre 1941 portant réglementation des fouilles archéologiques, In: Journal officiel de la République Française, du 15 Octobre 1941.