الطب الكولونيالي بمدارس الفتيات المسلمات

 

.لبنى العماري

باحثة بكلية الآداب والعلوم الإنسانية-القنيطرة

 

تمهيد

شكل التعليم إلى جانب الصحة، إحدى الشعارات التي تذرعت بها فرنسا لإثبات "مشروعية" توسعها بالمغرب، عبر التلويح أمام الرأي العام بنبل مهمتها الحضارية، مختلقة في سبيل ذلك مجموعة من المفاهيم من قبيل: الإلحاق، والإدماج، والشراكة، والتمدين… بُغية غزو الإنسان واختراق قيمه. فالاستعمار لم يكن عملا عسكريا فحسب، بل كان سيطرة اقتصادية وإثنية، وغزوا فكريا استهدف فرض ثقافة المستعمِر أيضا، وهو ما يفسر إسراع سلطات الحماية إلى إحداث مصلحة خاصة بالتعليم، أوكلت مهمة تسييرها للمدير السابق لإعدادية العلوي بتونس السيد "گاستونلوث" (Gaston Loth)، وكذا مصلحة للصحة أسندت للطبيب المفتش بيشار (Béchard) بمساعدة بيشيني (Péchiné)، وذلكتبعا لقرار المقيم العام "ليوطي" المنشور في العدد الأول من الجريدة الرسمية يوم الجمعة 1 نونبر 1912م.

لذلك سنحاول من خلال هذا المقال تسليط الضوء على نظام المراقبة الصحية للمدارس المغربية زمن الحماية الفرنسية، خاصة مدارس الفتيات، باعتبارها من اللحظات القليلة التي وظفت فيهما السلطات الاستعمارية مؤسستي الصحة والتعليم العموميتين كوسيلتين متكاملتين قادرتين على تأمين وجودها بالمغرب.

 

  • أهداف المراقبة الصحية داخل مدارس الفتيات:

لم تكن الإدارة الاستعمارية غافلة عن دور المرأة داخل المجتمع المغربي -رغم محدودية مشاركتها الاقتصادية والفكرية- فهي "جوهر الأسرة ومحورها النشيط، والتي يمكن أن تتحول بعد تعليمها إلى أداة دعائية فعالة، ووسيلة للتسرب قادرة على تعزيز النفوذ الفرنسي داخل البيوت المغربية".

هكذا راهن منظرو الحماية الفرنسية على تعليم الفتيات المغربيات (أمهات المستقبل) باعتباره هدفا استراتيجيا قادرا على ضمان ولاء أبنائهن لاحقا، بعدما سيتربون داخل بيوتهم على القيم الفرنسية أو ما يعتقدون أنه كذلك، غير أن واقع الحال أثبت خيبة آمال المحتل، إذ بقيت منشآته المدرسية الجديدة تشكو من الفراغ وضعف الإقبال، بل بلغ الأمر بالمغاربة إلى درجة إخفاء بناتهم عن إدارة الحماية، وإرشاء السلطات المحلية للتستر وغض الطرف عنهن.

وأمام ردة الفعل هذه بدأت سلطات الحماية تتحرى عن الأسباب الخفية الكامنة وراء هذا الإحجام -غير المبرر بالنسبة لها- الذي يهدد مشروعها ليس التعليمي فقط، بل جعل وجودها الاستعماري في المغرب على المحك. وبالبحث تبين أن النساء المسلمات

هن أول معارض للمشروع الفرنسي بشكل لا إرادي، إذ غالبا ما يبددن كل مساء ما قام الفرنسيون بإنجازه طوال النهار، ففي العديد من الأسر لا تستطيع الحماية التأثير على أطفالها الذكور، لأن النساء لا يرغبن في ذلك. ورغم أن الرجال لم يكونوا دائما راضين عما تقوم به هؤلاء النسوة، إلا أنهم لا يجرؤون على فعل شيء إزاء هذا السلوك.

كانت الإقامة العامة متابعة للمرأة المغربية، ساعية -حسب الظروف- إلى توظيفها لتحقيق مخططاتها الاستعمارية، أوليس الفرنسيون أصحاب مقولة "إبحث عن المرأة"؟ لذا يقول الوزاني أن "السلطة الفرنسية بعدما تدبرت الأمر من جميع أوجهه (تبين لها) أن مصلحة سياستها تقضي بمصلحة تعليم البنات المغربيات المسلمات، فالمرأة الجاهلة...عدوة كل ما تعمله فرنسا في المغرب، فهي ذات تأثير على الأسرة رجالا وفتيانا، وقد استدل الفرنسيون على هذا بأنهم عجزوا عن الوصول إلى أبناء كثير من العائلات لسبب وقوف المرأة في وجوههم، وامتناعهنعن السماح للأبناء بالدخول للمدارس الفرنسية، ولهذا اتجهوا إلى غزو البيت المغربي عن طريق المرأة بعد أن تنقاد للتطور، وتقبل على التعليم".

وفي الوقت الذي عملت فيه إدارة الحماية جاهدة على إقناع المغاربة بأهمية تعليم بناتهم، وتبديد مختلف هواجسهم لتطوير مشروعها التعليمي، كان عليها مواجهة عائق آخر حال دون تحقيق هذا التطور المنشود وهو ندرة وجود المدرسات، حيث امتنعت الكثير من الفرنسيات عن تعليم البنات المسلمات بدعوى ضعف تحصيلهن الدراسي أولا، ولغياب نظافة الأقسام ثانيا، حيث تخوفت المدرسات من انتقال عدوى الأمراض المنتشرة، خاصة

وأن العديد من الفتيات المغربيات كن لا يقبلن بالفحوص الطبية، مما ساهم في تعزيز هذه الندرة، لاسيما مع انتشار جملة من الأوبئة سريعة الانتشار مثل: السل والرمد وكذا حمى المستنقعات، ما جعل "كامبيطا" (Gambetta) يصرح خلال سنوات الحماية الأولى بأن "الأهالي" أي الإنسان المغربي، هو العدو لأنه يتسبب في تفشي حمى المستنقعات بين المعمرين.

شكل المغرب طيلة عقود الحماية الفرنسية مجالا لانتشار أمراض كانت أوربا قد قطعت في محاربتها أشواطا طويلة، ومما زاد في استفحالها استمرار أشكال التداوي التقليدية التي تربط بين الاستعانة ببعض الأعشاب المحلية والتوسل بالعزائم والتمائم التي يعتمد نجاحها على الصدف والعلاج بالإيهام أكثر من أي شيء آخر، لذلك شهدت سنوات الحماية الأولى وقوع بعض الضحايا في صفوف المدرسات الفرنسيات اللواتي سقطن "فداء الواجب الاستعماري" مثل "مدام سينيور" (Mme Signour) بالمدرسة الإسلامية للفتيات بالرباط، التي لقيت حتفها بعد صراع طويل مع مرض أصابها بمنطقة خنيفرة نتيجة تردي الأوضاع المناخية.وقد شكلت وفاة "مدامسينيور" نموذجا للمخاطر الصحية المحدقة بالطاقم التربوي الفرنسي بالمغرب، وهو ما نستشفه من كلمة أحد المسؤولين الفرنسيين في حفل تأبينها إذ قال: "أنتم جزء من كتيبة باسلة، كرستم حياتكم إيمانا بالتفاهم المتبادل بين فرنسا ومحمييها المسلمين، تستكملون المهمة الحضارية متجاهلين صحتكم المتداعية...لا سلاح لديكم سوى شبابكم، ونشاطكم، وضمائركم المعذبة والمثالية التي تسعى بلا كلل أو ملل للوصول إلى هدفها.

إن الفقدان المفاجئ مسألة مؤلمة، ونحن نشعر بالقلق من قسوة المصير الذي يتربص بشبابنا في مقتبل العمر".

كانت حماية الطفل في الأقسام المدرسية من الأمور ذات الاستعجال البالغ، لما يشكله تجمع الأطفال في القسم أو الساحة أو الداخلية أو المطعم من تسهيل لسريان العدوى، وهو أكثر ما كان يرعب المشرفين على المشروع التعليمي بالمغرب، ويهدد بوقف قدوم المزيد من المعمرين.

 

  • تنظيم التفتيش الصحي المدرسي وآلياته

لم تكن الإدارة الاستعمارية غافلة عن المخاطر الصحية المحدقة بمدارس الأهالي، فسارعت منذ أوائل سنة 1913م إلى تنظيم حملات للتفتيش الصحي بالمؤسسات التعليمية المخصصة لهم، حيث أقدم الدكتور "جوردران" (Jourdran) –وهو طبيب رئيسي للقوات الاستعمارية- على جمع المعطيات الخاصة بمصالح المراقبة الصحية بمدارس المستعمرات الإفريقية وطرق تنظيمها، لاختيار النموذج المناسب الواجب تطبيقه بالمغرب استجابة لأوامر شخصية من الجنرال ليوطي، وهو إجراء مبكر أدهش المتروبوليين أنفسهم، يقول عنه الطبيب "دوفيستيل" (Dufestel): "أعلمني رفيقي "جوردران" وهو شخص مطلع بالمسائل الإفريقية أنه بحاجة إلى معطيات عن نُظم المراقبة الصحية بمدارس إفريقيا الغربية لأنه ينتوي الذهاب إلى المغرب رفقة الجنرال ليوطي لتنظيم تفتيش طبي للمدارس هناك. أعترف بأنني لم استطع إخفاء مفاجئتي، فكيف لكم أن تفكروا في تنظيم تفتيش مدرسي بهذا البلد الذي بالكاد تتم تهدئته، ولا يزال منغلقا على الحضارة؟

كنت متشككا، لكن بعد لحظات من المحادثة مع الدكتور "جوردران" تبددت نظرتي السطحية بسرعة، وببضع كلمات أوضح زميلي أن الجنرال ليوطي مثل باقي المستعمرين الأفارقة يعتبر الطبيب هو العميل الأكثر فعالية لتسهيل التغلغل".

تنفيذا لهذه الرغبة أصدر المقيم العام سنة 1913م باتفاق مع "جوردران"، ومدير مصلحة الصحة العمومية، ومدير مصلحة التعليم، قرارا يقضي بضرورة إنشاء مصلحة للمساعدات الطبية خاصة بالأهالي تتكلف بالتفتيش الصحي للمدارس المغربية، من أجل التصدي لبعض الأمراض المنتشرة مثل القرع والجرب، مع الأخذ بعين الاعتبار إعداد برنامج مستقبلي يرمي إلى الوقاية من الأمراض التي تعصف بالمغرب مثل الجذري وحمى المستنقعات وما إلى ذلك.

وهكذا تكونت مفتشية خاصة بالمدارس تضم طبيبا عاما كُلف بإعداد جدولة زمنية للزيارات المزمع تنفيذها من طرف الأطباء المفتشين، وكذا التنسيق بينهم، وإبلاغ مدير التعليم أو مستشاره التقني في حالة وجود أمراض معدية وبائية، إلى جانب إرسال التقارير الطبية، وزيارة المدارس عدة مرات في السنة رفقة مدير التعليم العمومي.

أما الأطباء المفتشون الجهويون، فقد كلفوا بزيارة أسبوعية واحدة -على الأقل- لإحدى المدارس، مع تحديد ساعات الزيارة بتنسيق مع المدرسين، ثم إرسال تقارير إلى "القسم الصحي" التابع لمديرية التعليم العمومي في الحالات العاجلة، وأحيانا عبر التلغراف في حالة اكتشاف عدوى وبائية في صفوف التلاميذ، هذا إضافة إلى تقديم تقارير مفصلة للمصلحة المختصة في نهاية كل شهر.

استمر العمل بهذا النظام مدة سبع سنوات -تقريبا- قبل أن يعقد مدير مصلحة الصحة العمومية اتفاقا جديدا مع مديرية التعليم العمومي يوم الأربعاء 29 شتنبر 1920م شكل مرحلة جديدة من تنظيم التفتيش الصحي المدرسي بعدما أقر مبدأ التعويض عن الزيارات، حيث حصل الأطباء الجهويون على تعويض جزافي قدره 100 فرنك شهريا مقابل زيارات منتظمة لا تقل عن مرة واحدة في الشهر لجميع المدارس التابعة لمقاطعتهم، وأحيانا ثلاث زيارات في الحالات الاستثنائية بطلب شخصي من مفتش المنطقة. وقد سمح هذا النظام الجديد بتحقيق معدل زيارات أكبر لمدارس الفتيات، تجاوزت مجال منطقة الحماية الفرنسية إلى مدينة طنجة التي لم يكن قد حدد إطارها القانوني بعد، ففي 4 نونبر سنة 1925م نظمت سلطات التفتيش المدرسي زيارة لمدرسة الفتيات بالمدينة، تبعتها زيارة أخرى للمدرسة الحرفية في 1 دجنبر من نفس السنة.

غير أن سنة 1937م شهدت تأسيس تنظيم جديد تابع للمعهد الصحي حمل اسم "مصلحة الصحة المدرسية"، باتفاق بين إدارتي الصحة العمومية والتعليم العمومي، وعنيت هذه المصلحة بتفقد الحالة البدنيةللتلاميذ الأوربيين، والمغاربة من مسلمين ويهود في كل أسلاك التعليم، وهو إجراء  تزامن مع التغيرات السياسية التي شهدتها فرنسا وأوربا جمعاء، بعدما تزايد خطر النازية وانطلقت الدول في الاستعداد للحرب العالمية الثانية، فاضطرت البلدان المستعمِرة إلى الاهتمام أكثر بمستعمراتها، هذا في وقت وصل

فيه المد الاشتراكي إلى فرنسا مجسدا في حكومة "ليون بلوم" (Léon Blum)، التي أولت -نظرا لتطلعاتها السياسية وأبعادها الاجتماعية- أهمية أكبر للمرافق الاجتماعية، ومن ضمنها الصحة، مما انعكس إيجابا على المستعمرات، كما شكلت سنة 1937م فترة اشتداد وطأة وباء التيفوس الذي شع بالمغرب بين دجنبر 1937م وأواخر غشت 1938م أشد ما سبق به العهد من طوارق هذا الداء، فتخوف المعمرون من انتقال هذه العدوى، وازداد احتياطهم من الاحتكاك بالمغاربة، كما أن "مديري المدارس أشاروا على التلاميذ الأوربيين بأن يبتعدوا من أولاد المسلمين لأن فيهم مكروب التيفوس"، خاصة بعدما تم سنة 1938م اكتشاف إصابة عدة تلاميذ في مدينة الدار البيضاء وحدها، منها: حالة بمدرسة البنات في المدينة الجديدة، وحالة بمدرسة البنات في ساحة بلجيكا، وحالتان في مدرسة أبناء الأعيان، وتسع في المدرسة الأوربية الخاصة المسماة "الضيعة البيضاء" (La ferme blanche)، إضافة إلى الاشتباه في عشرات الحالات الأخرى.

  • دور الممرضات

لم يكن الأطباء وحدهم المكلفون بزيارة المدارس، بل الممرضات أيضا، خاصة مدارس الفتيات، وهنا كان للمرأة الفرنسية بالمغرب دور كبير ودقيق جدا، فهي وحدها من تستطيع التغلغل داخل مدرسة البنات واختراق العائلة دون أن تكون محل شبهة أو تحفظ كبيرين، وعن ذلك يقول الكاتب "ألفريد دو گوبارت"(De Gobart) : "في الوقت الراهن الذي لا تزال فيه العادات المحافظة هي المسيطرة من المستحيل على الطبيب

الرجل أن يتجاوز عتبة باب الغرف الخاصة بالنساء، وفقط الممرضة أو الطبيبة من يمكنها أن تجعل أساليبنا الصحية تنتشر من خلال التأثير الشخصي للنساء الفرنسيات على النساء المسلمات".

كان مُنظرو الحماية الفرنسية على يقين بدور الممرضة والطبيبة في اختراق أكثر الفئات الاجتماعية انغلاقا حتى وإن تعلق الأمر بالفتيات المسلمات، وهو ما يفسر إصرار زوجة المقيم العام "لوسيان سانت" (Lucien Saint) على ضرورة وجود ممرضات زائرات تعشن وتعملن بالمغرب.

اختيرت هذه الممرضات عادة من بين العسكريات اللواتي تم إعفاؤهن من الخدمة، أو من الممرضات اللواتي قضين سنتين على الأقل في وظيفة التمريض بأحد المستشفيات الخصوصية أو العمومية، لكن ذلك لم يمنع من استمرار الخصاص في صفوف الممرضات الزائرات، خاصة مع استمرار استقالة بعضهن أو طلبهن لإجازة طويلة الأمد، فتم تعويضهن ببعض المقيمات بالمغرب، كما تم استقدام أخريات من فرنسا، الشيء الذي مكن من إحياء نشاط بعض المراكز الصحية، كمركز تازة الذي ظل فارغا إلى حدود سنة 1941م، وأحدث مركز جديد بأگادير ضم 36 ممرضة زائرة انطلق في الخدمة ابتداء من دجنبر 1942م.

اقتضى عمل الممرضات الزائرات الاهتمام بالرعاية الصحية للمدرسة بشكل عام والتلاميذ بشكل خاص، وذلك من خلال التعاون الوثيق مع المديرات والمدراء والمدرسات والمدرسين، بإشراف الطبيب المدرسي، الشيء الذي مكن من إنشاء ملفات صحية فردية شكلت جميعها السجل الصحي للمدرسة.

وبقدر ما كانت هذه المهمة سهلة وروتينية داخل المدارس الأوربية، فقد اكتنفها الكثير من الصعوبة والحساسية بالمدارس الفرنسية-الإسلامية، خاصة مدارس الفتيات، إذ لم تتوقف مهمة الممرضة عند تفقد التلميذة بمدرستها بل تمتد إلى داخل الأسرة، فهي من تقود الطفلة إلى المستوصف وتزورها عند العائلة أيضا، ومن الفتاة يمتد التأثير إلى النساء اللواتي غالبا ما تكن مريضات.

ساهم تفهم الممرضات لطبيعة المجتمع المغربي وخصوصياته الثقافية في كسب ثقة التلميذات وتبديد مخاوفهن رغم اختلاف العرق واللغة والدين، وهو ما عبرت عنه إحدى الفتيات بطريقة تلقائية حينما صرحت لإحدى الممرضات الزائرات قائلة: "أنت نصرانية لأنك ترتدين قبعة لكن قلبك مسلم لأنك تحبيننا"،وهوما يجسد اعترافا بمجهودات هؤلاءالممرضات وتفانيهن في نشاطهن المهني.

 

  • الأنشطة

اقتضى نظام المراقبة الصحية لمدارس الفتيات منذ نهاية الثلاثينات على وجود طبيب مفتش مكلف بزيارة كل المدارس بانتظام مرة في الأسبوع، بينما تقوم ممرضتان بزيارة تلك المؤسسات مرتين في الأسبوع، تكون إحداهما يوم زيارة الطبيب المفتش، حيث تتفقد كل ممرضة عددا من الأقسام الموكولة إليها.

تستغرق هذه الزيارة عشر دقائق تقريبا في كل قسم، تطلع خلالها الممرضة على الأحوال الصحية للتلميذات بمشاورتها مع الأستاذة، وتعاين التلميذات اللواتي هن في حاجة إلى فحوصات طبية أو إلى علاجات، وتسجل أسماءهن في دفتر، ثم تقتادهن إلى قاعة التمريض لتلقي الفحوصات، قبل أخذ العلاجات الضرورية. غير أن دور الممرضة لم يكن مقتصرا على العلاج الطبي فقط، بل تعداه إلى مراقبة النمو والنظافة وغير ذلك من أشكال الفحص الروتيني، حيث اهتمت الممرضات بتطعيم التلميذات ضد بعض الأمراض، وقياس طولهن وأوزانهن، مثلما حدث بمدرسة الفتيات المسلمات بوجدة مطلع الثلاثينات كما هو ممثل في الصورة أسفله.

 

1 3 2

 

استمر هذا النظام طيلة فترة الحماية مع بعض التعديلات البسيطة، ففي أواسط الأربعينات أصبحت الممرضة الزائرة تعمل على مراقبة الحالة الصحية للتلميذات المسلمات اللواتي سبق وأن رآهن الطبيب الفاحص -في كل دورة- بشكل أسبوعي هذه المرة، حيث يتم اقتياد بعضهن إلى المصحة إذا استوجب الأمر ذلك.

ورغم التزام جميع المدارس الفرنسية-الإسلامية للفتيات بالمراقبة الصحية لتلميذاتها، فإنها لم تلتزم بجدول زمني موحد، إذ تغير موعد الزيارة من مدرسة لأخرى، بل وداخل نفس المدرسة، ففي مدرسة الفتيات بمراكش مثلا ظلت الخدمات الطبية تقدم في ظهيرة كل أسبوع دون تحديد يوم زيارة الممرضة الذي ظل موعدا سريا يتم تغييره كل أسبوع تجنبا لغياب التلميذات، إذ أن فحوصات الممرضات لم تكن أمرا مقبولا بعد بشكل طوعي من طرف تلميذات تعودن على ستر وجوههن، فما بالك بكشف أكثر من ذلك أمام أجنبي مهما كانت صفته.

من جهة أخرى حرصت مصلحة الصحة المدرسية على جعل مدارس الحماية المفتوحة مراكز مهمة للتفلية والتلقيح عندما يلم بالبلاد طائف من الوباء، غير أنه كان من الصعوبة بمكان على القائمين بالصحة المدرسية -التي كان يرأسها الطبيب "ماتيو" (Mathieu) منذ سنة 1937م-أن تعم رعايتهم كل الأطفال، فالأسبقية في الاهتمام والعناية كانت من نصيب الأطفال الأوربيين، فيما لم تكن عملية الصحة المدرسية تمس من أطفال المغاربة إلا عددا قليلا ممن يدرسون في مدارس أوربية، أو في مدارس قريبة من أحياء أوربية بالمدن، لاسيما وأن مصلحة الصحة لم تكن تتوفر سوى على القليل من وسائل العمل، كما اعترف بذلك أحد التقارير حول نشاطها، خاصة خلال سنوات الحرب العالمية الثانية، منها ما تعلق بندرة وسائل النقل، وآخر مرتبط بقلة المستخدمين، لكنها حاولت الاحتفاظ بنشاطها على الرغم مما ظل يشوبه من نقص وميز بين التلاميذ الأوربيين والتلاميذ المغاربة، كما هو موضح في الجدول التالي الذي يبين نشاط مصلحة الصحة المدرسية بأربع عشرة مدينة مغربية خلال سنة 1942م.

 

عدد الأقسام

عدد التلاميذ

عدد الزيارات

تدخلات طبية صغيرة

(ضمادات،قطرات عين..)

تلقيحات

إناث

ذكور

في المدرسة

في البيت

الأوربيون

617

13.134

12.492

7.512

1.477

52.616

4.387

المسلمون

422

5.420

11.225

3.500

471

222.328

6.073

اليهود

286

7.154

6.982

1.675

117

149.360

6.716

المجموع

1.325

56.407

12.667

2.065

424.304

17.176

 

تعكس الأرقام الواردة في الجدول مدى تباين نشاط مصلحة الصحة المدرسية بين مدارس الأهالي ومدارس الأوربيين، ففي الوقت الذي تمت فيه زيارة 8.989 أوربية وأوربي في المدرسة أو في البيت، فإنه لم يتم تفقد سوى 3.971 تلميذة وتلميذ مغربي مسلم، مقابل 1.792 فقط من أصول يهودية، رغم أن التلاميذ المغاربة كانوا أكثر احتياجا لتلك الخدمات لسوء حالتهم الصحية، وهو ما تبينه أرقام التدخلات الطبية في الجدول أعلاه.

راهنت مديرية التعليم العمومي على الخدمات الطبية المقدمة للتلميذات والتلاميذ المغاربة داخل مؤسساتهم التعليمية لتكون خير معين على الحد من تفشي الأوبئة الفتاكة التي كانت لا تزال تنهش جسدهم وتعرقل كل رغبات المستعمِر، مهما كلف الثمن. وفي هذا الإطار تورد جريدة "السعادة": "تكبدت المدرسة في محاربة الأمراض المعدية ضحايا في

سبيل الواجب، حيث كان هناك العديد من الفرنسيات اللواتي لقين حتفهن وهن عاملات في مناصبهن كخادمات وفيات لصالح بلادهن".

كانت جريدة "السعادة" محقة في قولها من أن عددا من الفرنسيات رحن ضحية الواجب، لكن أي واجب؟ هل هو واجب الإنسانية الذي يناقض مبدأ الاستعمار والاستغلال؟ أم واجب خدمة المتروبول الذي يجب أن يعيش ويكبر مهما كلف الثمن؟

مهما يكن من أمر، فقد قضى بعض الأطباء والممرضين نحبهم وهم يحاولون تطويق الأمراض والأوبئة التي كانت لا تزال تفتك بالمغاربة وأبنائهم، وهي إجراءات عززت ثقة الآباء في مؤسسات فرنسا التعليمية، إن لم يكن على مستوى البرامج فعلى مستوى الأمن الصحي والخدمات المجانية التي تجاوزت التفتيش المدرسي إلى مرافقة التلاميذ في المخيمات الصيفية، ففي صيف 1942م وضعت ثمان ممرضات تحت تصرف مديرية التعليم العمومي لضمان الإشراف الصحي على المخيمات الصيفية بمازاگان، وعين السبع، وسلا، وإفران، وثمان عشرة منهن بمخيمات الشبيبة والرياضة.

عنيت مصلحة الصحة المدرسية بتنظيم التفتيش الصحي في المدارس وتحسين عمل المشرفين عليها من أطباء وممرضات، إلى جانب توفير الأدوية للقضاء على الأمراض التي كانت تجتاح التلاميذ، أو للوقاية منها إذا أمكن، وهو ما ساندته مجموعة من الظهائر، كان آخرهافي 15 يونيو من سنة 1954م، هدف إلى إطلاق "حملة للتلقيح ضد داء الدفتيريا للتلاميذ ذكورا وإناثا من الأطفال البالغين أقل من 14سنة، سواء بالمؤسسات العمومية أو الخاصة"، ويفرض عقوبات جنائية على كل من امتنع عن تسليم أطفاله. بجانب ذلك حرصت المدارس العمومية للفتيات المسلمات على إدراج مواد تُعنى بتعليم

التلميذات شروط الوقاية والنظافة بل وحتى طرق تربية الأطفال، وكيفية انتقال الأمراض المعدية والحد من انتشارها، فكانت الفتيات المتخرجات أولى الحريصات على صحة أبنائهن وعائلاتهن وبنات أحيائهن أيضا.

 

خاتمة

استطاعت مصلحة الصحة المدرسية -بأطرها الطبية والإدارية- تقديم خدمات علاجية ووقائية للتلاميذ والتلميذات المغربيات، رغبة في الحد مما يفتك بهن من أمراض، ويعرقل سير تحصيلهن، ويدفع مدرساتهن الفرنسيات إلى التردد والإحجام عن القدوم إلى بلد لا يخلو تاريخه من فترات عمها الوباء وعاث فيه فسادا، لكن ذلك لا ينفي عن هذه المصلحة دورها السياسي في تعزيز الوجود الاستعماري وتهيئ ما يضمن له سبل الاستمرار، من خلال اختراق الأسرة المغربية في شخص فتاتها وربة بيتها المستقبلية، اعتمادا على سلطة العلم والمعرفة القادرين على إبهار من ظلوا عقودا طويلة مكبلين بقيود التقليد والخرافة، وعن ذلك يقول "ألفريد دو گوبارت": "تأثير الطبيب في مدارس الأهالي هائل، إذ هناك العديد من الأطفال الذين يعانون من الصلع والجرب وأمراض طفيلية من جميع الأنواع التي يسهل علاجها. والتلميذ الشاب يقف مشدوها جراء النتائج المبهرة التي يتم الحصول عليها، فالحقائق التي يرونها والمعالجون الذين يرونهم تقدم لهم انطباعات دائمة تظهر لهم تفوق الطبيب الفرنسي وحضارته".

 

المصادر والمراجع:

اليزيدي محمد، التعليم بالمغرب على عهد الحماية، مدينة فاس نموذجا: 1912-1956، أطروحة لنيل الدكتوراه في التاريخ، إشراف محمد البكراوي، جامعة سيدي محمد بن عبد الله، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، ظهر المهراز-فاس، السنة الجامعية 2002-2003.

أوري لحسن،التعليم بمدينة صفرو على عهد الحماية 1912-1956، أطروحة لنيل شهادة الدكتوراه في التاريخ المعاصر، إشراف الدكتور حسن الشافعي العلوي، ظهر المهراز-فاس، 2003-2004.

الوزاني محمد حسن، مذكرات حياة وجهاد، التاريخ السياسي للحركة الوطنية التحررية المغربية : طور المخاض والنشوء، مؤسسة محمد حسن الوزاني، فاس، الجزء الأول،  1982.

العلمي الخمار، الخطاب حول التعليم وإستراتيجيات السلطة، استراتجيات ورهانات تعليم الفتاة، منشورات اتحاد كتاب المغرب، الطبعة الأولى، 2004.

رويان بوجمعة، الطب الكولونيالي الفرنسي بالمغرب 1912-1945، مطابع الرباط نت، 2013.

بنعدادة آسية، السياسة الاستعمارية الطبية في النظام التعليمي المغربي، ضمن المعرفة الطبية وتاريخ الأمراض في المغارب، تنسيق آسية بنعدادة، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، الرباط، 2011.

جريدة السعادة، العدد 6232، السنة 41، الخميس 28 شتنبر 1944.

الجريدة الرسمية، العدد 2176، السنة 43، 09 يوليوز 1954.

Rivet Daniel, Lyautey et l’institution du protectorat français au Maroc 1912-1925, L’Harmattan, 1988, Tomme II.

Bulletin officiel, N°1, 1er année, 1er Novembre 1912.

Colombani (J),La femme dans l’œuvre d’assistance française au Maroc, in  Bulletin union des femmes de France, n° 4, 14e année, Avril 1933.

Marty Paul, Le Maroc de demain, publication du comité d’Afrique française, Paris, 1925.

Bulletin de l'enseignement public au Maroc, N°138, 22éme année, Mars 1935, Edition Larousse, Paris.

Dufestel (L), L’hygiène scolaire au Maroc, in Revue internationale d’hygiène et de thérapeutique oculaires, 7e année, Juillet 1913.

Vermeil (A), l’inspection médicale des écoles au Maroc, circonscription de Casablanca, in Bulletin de l'enseignement public au Maroc, N°73, 13e année, Mars 1926.

Perrier (A), L’inspection médicale des écoles au Maroc, circonscription de Tanger, in Bulletin de l'enseignement public au Maroc, N°73, 13e année, Mars 1926.

De Gobart (A), La femme au Maroc a une belle tâche à accomplir, in L’intransigeant, N° 18647, 51e année, Dimanche 9 Novembre 1930.

Piétri (L), Rapport sur l’activité du service central de L’hygiène scolaire en 1942, in Bulletin de l’institut d’hygiène du Maroc, tome II, 1942.

Le Maroc en 1932: vingtans de Protectorat français au Maroc, Imprimerie Fontana, 1932.

Les écoles franco-musulmanes de fillettes au Maroc, in Bulletin d'information du Maroc, N°6, N° 6,  Juillet 1946.

Knibiehler Yvonne, Instruction des filles au Maroc pendant le protectorat (1912-1956), in Sextant, Revue du groupe interdisciplinaire d’études sur les femmes, vol  N° 1, Bruxelles, 1993.