سرّ التّحول المسيحي لأغسطين

(من الخطيئة إلى الكهانة)

 

د.زموري خديجة                                                  

جامعة باجي مختار-عنابة.                                                                                                                                                                                                                                           

الملخــــص:

يعالج المقال سرّ التحول المسيحي لأغسطين، هذه الشخصية التّي تميزت في شبابها بحياة اللّهو واللامبالاة، بل المساس بأسمى المقدسات. ليصبح بعدها من أهمّ وأعظم آباء الكنيسة في العصر القديم، ووصلت تأثيرات فكره اللاهوتي الفلسفي للعصور الوسطى.

إن الوقوف على سرّ هذا التحول يمكن تلخيصه في ثلاث نقاط: أولها تأثير محيطه العائلي ونخص بالذكر والدته "مونيك"، إلى جانب طبيعة تكوينه العلمي الذي اتسم باطلاعه على كل علوم عصره (كتاب شيشرون – المذهب المانوي – الفلسفة الأفلاطونية – الكتاب المقدس). وأخيراً طبيعة تفكير أغسطين التي تعتمد على إخضاع الأمور إلى العقل قبل الإيمان أو التسليم بها. وقد مارست كل هذه الأمور تأثيراتها على أغسطين لتصل به في نهاية المطاف إلى اعتناق الإيمان المسيحي ويصبح من أبرز منظري اللاهوت المسيحي.

الكلمات الدالة: القديس أغسطين، المسيحية، الفلسفة الأفلاطونية، المانوية، أمبرواز، شيشرون.

ABSTRACT:

The article is about the Christian’s changement of Saint Augustin, who was known for his fun and pithy during his youth. More than that the prejudice to basic sanctities. However, he became one of the most important church’s fathers in the old age. his theological philosophical thought effect reached the middle age.

This change can be summarized in three main points. Firstly, his family environment, especially his mother Monique. Secondly, the nature of his scientific education (Cicero book, Manichean doctrine, Plotinus philosophy, the bible). Finally Augustin’s thought nature that depends on the reason before belief.

All that affected Augustin till he converted to the Christian faith, and become one of the most prominent theoretician of the Christian theology

KEY WORDS:

Saint  Augustine  , Christianity , Platonic philosophy  , Manichaeism , Cicerone , Amboise .

مقدمـــــــــــــة :

عرفت الحياة الدينية في إفريقيا الشمالية نشاطاً لا مثيل له منذ وقت مبكر، فذاع صيت كنائس وأساقفة إفريقيا الشمالية. التّي كسبت شهرة على مستوى كامل الإمبراطورية الرومانية. فقد اسهم أساقفتها أيّما إسهام في إثراء الدين المسيحي، فأعمالهم يشهد لها تاريخ الكنيسة المسيحية إلى اليوم. ولعل  الأسقف "ترتليانوس" من ابرزهم، فقد كان له أول اثر مسيحي مكتوب باللغة اللاتينية في شمال إفريقيا ، كما عُقد اقدم مجمع كنسي بقرطاج على يدّ "كبريانوس". لكن يبقى القديس أغسطين من أهم وأعظم الشخصيات التّي أنجبتهم شمال إفريقيا.

إن تنبع أهمية  شخصية القديس أغسطين ليس في كونه قديس فحسب، أو شخصية دينية كانت لها بصمة بارزة في الكنيسة الكاثوليكية، إنما يعتبر موسوعة فكرية. فتأثيرات أفكاره وأعماله مازالت إلى اليوم تشغل الكثير من المهتمين. ليس في مجال اللاهوت وفقط بل في  مجال الفكر عامة، وذلك نظراً لغزارة إنتاجه الإيديولوجي، حتّى قيل لا يمكن لشخص واحد أن يدرس كلّ أعمال أغسطين  لكن السؤال الذي يطرح:

كيف لشاب بسيط عاش حياة اللامبالاة وفساد الأخلاق واللهث وراء شهواته الجسدية، أن  يتحول إلى رجل دين. ويكرس مابقي من حياته لخدمة الكنيسة، بل يصبح من أكبر وأعظم مفكري عصره، إذ غمر العالم بأفكاره اللاهوتية، الفلسفية والسياسية إلى اليوم؟

 

العـــــــــــــــــرض:

1- محيطه العائلي:                                     

بمدينة صغيرة جبلية تدعى تاغست[1] المعروفة اليوم بسوق أهراس بالجزائر، على نحو 100كلم جنوب مدينة "هيبورجيوس" عنابة[2] ، 180كلم شرق مدينة سيرتا قسنطينة[3]، ولد صبي بدوي يٌدعى أريليوس أوغسطينوس في 13 نوفمبر 354م[4] . من أمّ مسيحية تدعى مونيكMonique  ، ذات أصول بربرية[5]4 .

وأب وثني يدعى بتريكيوسPatricuis ، مواطن بسيط ذو أصول رومانية1ومن ملاك الأرض الصغار. يشغل وظيفة رسمية في الحكومة المحلّية، رغم وثنيته كان متساهلا مع الدين المسيحي، الذي كانت تمارسه زوجته.  ويبدو أنّه لم يكن يمانع في أن يتعلم ابنه منذ الصغير التعاليم والمعتقدات المسيحية.[6]

حظي أغسطين برعاية عائلية سمحت له بإنهال العلم منذ نعومة أظافره؛ فوالده بتريكيوس الذي كان ينحدر من طبقة بسيطة أو بالأحرى من الطبقة البرجوازية الصغيرة كان يواجه صعوبات مالية[7].  ورغم تلك الصعوبات كان متسلحًا معتمدا على طموحه أكثر من موارده، في سبيل إنجاح تربية ابنه، تربية تسمح له بتبوأ مكانة ضمن المجتمع الروماني. وأن يصبح مدرساً أو على الأقل محامياً في مجتمع كانت فيه المحاماة والقضاء تمثل ذروة المجد والرفعة[8]. فهذا الأب سعى بكل جهده توفير المال من أجل أن يوفر لنجله أقساط متابعة دراسته العليا بقرطاج.

رغم كل هذه التضحيات من والده نجد أن أغسطين في كتابه "الاعترافات" ، لم يظهر أبداً إعجابه وتعلقه بوالده، بل كان يتحدث عنه إلّا اذا تعرض للجانب المادي[9].

-2مساره الدراسي:

في سن السادسة التحق أغسطين كجميع اقرناه بالمدرسة بمسقط رأسه تاغست[10]، أين تلقى المبادئ الأولى في الكتابة، القراءة  والحساب. ولم يظهر على أغسطين في هذه المرحلة أي ذكاء أو فطنة أو حب للتعلم[11]. بل عانى من عقاب أساتذته له، بسبب تكاسله وتقاعسه في إنجاز واجباته[12] .

إذ كان الضرب من الوسائل المتبعة في المدرسة آنذاك،  وهي طريقة استحسنها كلّ من الأساتذة وأولياء التلاميذ، كوسيلة لإخضاع المتعلمين للطاعة.

غير أن هذا العقاب والأسلوب المُمِل كان عامل تنفير لأغسطين اتجاه المدرسة، إذ يقول: "... كرهتُ الدرس والأسلوب المتبع، إرغاماَ لي عليه، ومع انّي نفرت منه فقد أُكرِهت عليه ...."[13]

كان التعليم الابتدائي عموماَ ذا أهمية كبيرة لأغسطين، إذ استطاع من خلاله أن يقرا ويفهم كلّ ما يقع تحت يديه من كتب.

في حوالي 365 م[14] انتقل أغسطين إلى "مادور"[15] من اجل إكمال تعلمه [16]، لتظهر في هذه المرحلة مهاراته البلاغية. إذ ابدى تفوق على أقرانه واستطاع تعلم فن التعبير عن نفسه، وكذا جذب مستمعيه بجعلهم يضحكون تارة ويبكون تارةَ أخرى[17]. كما استطاع أن يعبر عن غضب وألم الآلهة "جونو" من خلال سردّ قصتها على المسرح.

كان معظم أساتذة "مادور" وثنيين الأمر الذي جعل التعليم ذا طابع كلاسيكي وثني، فقد أُرغم أغسطين وأصدقائه على حفظ واستظهار عن ظهر قلب أشعار هوميروس، فرجيل، شيشرون وساليست. ويتوجب عليهم شرحها بدقة[18]، فالملاحظ أن العلوم كانت ذات طابع أدبي محض.

ما إن اكمل أغسطين دروسه بمادور عاد إلى مسقط رأسه تاغست[19] في حوالي 369 م. وفي السنة الموالية لم يستطع الرجوع إلى صفوف المدرسة، فقد كان عليه أن ينتظر سنة كاملة.  ليتمكن "باتريكيوس" والده من جمع المال الكافي[20] ، الذي يسمح له بإكمال دروسه في قرطاج. فشكلت هذه السنة  منعرجاَ في حياة أغسطين، فأمام فقدان أبيه السيطرة الكافية عليه، جعله يسترسل في فعل كلّ ما يحلو له [21] فكانت سنة اللامبالاة، واللهو.

وأيضا الهمجية مع زمرة من الأصدقاء الخلعاء[22]، الذين عمدوا إلى المساس بأقدس المحرمات، ووقعوا في المفاسد بحثاَ عن الملذات حتّى وصل به الأمر إلى عصيان والدته التّي ضرب بنصائحها عرض الحائط.

في سنة 370م وصل أغسطين إلى "قرطاج" لإكمال دراسته العليا[23]، وحتما كانت الحياة بهذه المدينة أكثر تشويقا لشباب أتوا من مدن صغرى. فالمدينة كبيرة وتمثل رمز الحرّية، حتّى وصفها أغسطين بمرجل الشهوة المدنسة[24]. ففي هذه المدينة اتخذ أغسطين عشيقة[25] إشباعًا لشهواته في حوالي 371م. والتّي أنجت له ابنًا في حوالي 372م سمّاه "اديوداتوس"[26] أيّ عطية الله.

تابع أوغسطينوس دروسه في البلاغة والفصاحة آملا أن يسمو إلى تقلد منصب في القضاء أو المحاماة[27]. وقد اظهر أغسطين في هذه المرحلة تفوقا كبيرا على أقرانه، الأمر الذي أهله إلى فتح مدرسة لتدريس الخطابة. وهو في التاسعة عشرة من عمره[28]، وذلك بمساعدة وتمويل أحد مواطني تاغست الأثرياء، كان يدعى "رومنيانوس"[29].

  الذي تكفل بكل مصاريف تعليمه بعد وفاة والده في 371 م[30]، إذ يقول: "... تغلبت على شهوات فرحت ادرس الخطابة وأبيع هذا الفن ..."[31] ومن ثمة تبحر أغسطين في دراسة أمهات الكتب ككتاب "هورتونيوس" لشيشرون[32] وكتاب أرسطو "المقولات العشر" ، التّي رغم صعوبتها استطاع فهمها وحده في حين عجز الكثير بمساعدة أساتذتهم على فهمها. غير أن عدم انضباط الطلاب في قرطاج، دفع بأغسطين إلى التفكير في السفر إلى روما آملا في معاش أفضل ومركزا أعلى وطُلابا أكثر انضباطا[33]

2- الصداقة:

شبَّ أغسطين غير متقيد بالدين ، فحياته لم تكن جدّية تماماَ . كان يهوى دائما البقاء في صحبة الأخرين، أولئك الذين كانت أذواقهم تتناسب مع ذوقه، فقد قضى كل وقته –خاصة العطل – في الكسل والخمول وفعل ما يحلو له. فجاب الطرق والأماكن بمعية رفاقه من أبناء جيله، حتّى أنّهم قادوه إلى فعل الخطيئة. كما يذكر في كتابه الاعترافات أين يروي لنا حادثة سرقة ثمار الإجاص من أحد البساتين.

 فيقول: "....لم ارتكب تلك السرقة وحدي بل أحببت مرافقة من شاركتهم فيها.....لكن لذتي الوحيدة في الخطيئة التّي اشتركنا بها، لا في تذوق الإجاصات المسروقة"  [34]

كان أغسطين يحظى بشعبية وسط رفقائه وفي المقابل كان يُسيئ إلى نفسه حتّى يترك انطباعاَ جيداّ عنه لدى زملائه. وخلال فترة المراهقة كان يتباهى بارتكاب خطايا لم يقترفها قط، وذلك حتّى يحظى بالإعجاب والامتنان. لكن في نفس الوقت أحاط أغسطين نفسه بثلة من الشباب الذين تميزوا على غراره بالتشوق إلى المعرفة، والميل إلى كشف أسرار الحكمة، عن طريق الفلسفة. منهم من ذكرهم في مؤلفه "الاعترافات" بإسهاب على رأسهم اليبيوس Alipius[35]، صديق الطفولة وفي نفس الوقت تلميذه.

 بالإضافة إلى "نبريديوس"[36]. كان مجموعة كبيرة من الأصدقاء يبتهج كثيراَ بالتحدث إليهم، تلك الأحاديث التَي كانت مفعمة بالحيوية والنشاط، وكان يستمتع بالأفكار والآراء الحيّة التّي كان يبديها أولئك الشباب. لقد تحدث أغسطين بحرارة عن الحوار والضحك والاحترام المتبادل، ودراستهم المشتركة للفصاحة والبلاغة. وعن الصداقة التّي تظهر أحياناَ جدّية وأحياناّ أخرى مرحة[37]

الملاحظ أن أغسطين كان بطبعه اجتماعي، فلم يعرف في حياته طابع الانعزال عن الأخرين. فقد كان دائم الانفتاح على الأصدقاء كما كان أميل إلى اللقاءات مع الأخرين، وقد كان لهذه العلاقات المختلفة تأثير كبير على تكوين شخصيته[38].    

3-رحلة بحث عن الحقيقة:

3-1 قراءته لهورثونيوس:

بعيداّ عن حياة اللّهو والمجون التّي عاشها أغسطين في شباب. كان شاباّ موهوباّ، ذكياّ، كثير المطالعة، غير أن الاستنارة العقلية الأولى لأغسطين كانت مع شيشرون. فخلال دراسته العليا بقرطاج اطلع على كتاب "هورثونيوس" الذي أيقظ وشكل فكره إلى الإيمان على الصعيد المعنوي والفكري.

 إذ يقول: " في سن التاسعة عشرة من عمري اكتشفت في صف الخطابة كتابا لشيشرون يسمة هوثنيوس فاضطرمت حباَ للفلسفة وفكرت على الفور، في أن أقف نفسي على دراستها. "[39]

على الصعيد اللغوي أعجب أغسطيس بتلك التعابير الفصيحة والأدب الرفيع، الذي جاء في كتاب شيشرون. ومن ثمة ظهر له مدى ركاكة وفقر الكتاب المقدس، الذي انكب على دراسته تحت تأثير امه. ذلك التأثير الذي كان يجذبه للعقيدة بينما ميله العقلي يجذبه إلى الفلسفة[40].

كما سمحت هذه القراءة أن تتخذ شخصيتة سمتين الأولى هي الميل إلى تذوق الخير، والثانية البحث عن الحقيقة والحكمة. هذه التّي تسمى في اللغة اليونانية بالفلسفة[41]. فشيشرون بعد أرسطو وضع الحكمة فوق الثروة والشهوات وكلّ منفعة دنيوية. ومن هنا سيطرت على فكر أغسطين مدى حكمة هذا الفيلسوف العظيم، وبدأ شغفه بالبحث عن الحقيقة.[42] فقد حرض هذا الفيلسوف فكر أغسطين على طرح الأسئلة، لا لمذهب معين بل من أجل الحكمة عينها. وهي التي شكلت انطلاقته نحو رحلة بحث طويلة عن الحكمة الأزلية. غير أن حماسه خفّ اتجاه هذا الكتاب لأمر واحد وهو غياب اسم المسيح. إذ كان كلّ كتاب يخلو من اسم المسيح، لا يحلو له كثيراَ مهما كانت بلاغته، نسقه وفلسفته[43]. وهذا إن دلّ على شيء فانما يدل على البذور التّي يحملها أغسطين عن تعاليم المسيحية، والتّي حفضها عن والدته.

3-2 المذهب المانوي:

انكب أغسطين بكل كيانه على دراسة أمهات الكتب في عصره بحثا عن الحكمة والحقيقة الأبدية، واحتك خلال بحثه الدائم عن الحقيقة بجماعة دينية كانوا يعرفون بالمانويين. هذا المذهب الديني الذي كان يقوم على أساس تقديم تفسيرات وتعليلات لوجود البشر، الأمر الذي بدى له معقولا[44].

اخذ هذا المذهب اسمه من مؤسسه ماني[45] ، الذي أدعى أنّه مطلع على حقيقة الإنسان الطبيعية. زاعما أن الخلق هو نتيجة مزج بين جوهرين هما الروح والمادة. وأن هذين الجوهرين كانا منفصلين قبل السقوط.

 ومآلهما هو الانفصال من جديد[46].  ومن هنا رأى المانويين بأن الحياة هي صراع ابدي بين النور والظلمة، بين الله والشيطان، بين الخير والشر[47]، بين الروح والجسد كما أن الجسد ليس إلاّ سجنا للروح. يقرّ أغسطين في اعترافاته  وهو في سن التاسعة عشرة من عمره، كان قد استهواه اله المانوية فقد كتب في اعترافاته يقول :

"طول تلك السنوات التسع الممتدة بيت التاسعة عشرة والثامنة والعشرين من عمري كنّا فريسة لشهوات مختلفة  كنّا نغزي النّاس و يغزوننا، ونخدعهم و يخدعوننا تارة علناَ بواسطة العلوم (الحرَة) ووتارةّ سرا تحت شعائر الدين الكاذبة."[48]

تمكن أغسطين في سنة 383 م بقرطاج من لقاء "فوستيوس" الذي اشتهر بفصاحته التّي استمالت الكثيرين. لكن أغسطين ورغم إعجابه ببيانه وفصاحته، إلاّ أنّه لم يجده أكثر حكمة من غيره. واستطاع أن يميز بينه وبين الحقائق التّي كان يتوق إليها.

فالملاحظ أن عجز فستيوس عن شرح المواضيع التّي كان يأمل أغسطين في إيجاد حلٍ لها، زعزع ثقته بالمذهب المانوي  واتباعه. ولم يعد يرجو منهم تنويرا واغفل عن فهم وحل المشاكل التّي كانت تعذبه. إذ يقول في هذا المضمار: " تضمنت كتب المانوية خرافات لاحد لها عن الماء والنجوم والشمس والقمر وكما تمنيت عليه لو يشرحها لي بدقة ويقارن بينها وبين سواها من الشروح المركزة على الحساب التّي إذ اطلعت عليها في محل آخر لكي أرى إن كانت معطيات الكتب المانوية افضل منها أو على الأقل إن كانت تشرح الحوادث الأنفة الذكر شرحا مفصلا  ومقبولا بيدا انّي لم اعد اؤمن بمقدرته على ذلك الأمر"[49].      

شُلّ حماس أغسطين لتعاليم ماني ومبادئه وخفت ثقته باتباعه وأساتذته، بعد أن ثبت له عجز أشهرهم على الإجابة لما كان يختلج عقله، من تساؤلات عن مصدر الشرّ في العالم.

 3-3 الفلسفة الأفلاطونية:

إثر انتقال أغسطين إلى روما في 383 م، وخلال بحثه الفلسفي وقعت بعض كتب الفلسفة الإغريقية بين يديه، عن جماعة الأفلاطونيين المحدثين[50]. التّي كانت  قد ترجمت إلى اللاتينية بواسطة أحد أهم وأشهر معلميهم يدعى "فكتوريانوس"[51] . وقد سمحت هذه الكتابات لأغسطين أن يدرك طبيعة الله الروحية، وأن الحقيقة ممكنة التعلم وقابلة لأن تعرف[52]. وأن الله هو الكائن الأسمى، اللامتناهي الأبدي وهو النور. كما ادرك أن الشرّ ليس جوهراّ بل هو حرمان ونقص في الإنسان[53] . وأن حدوث الشرّ  إنّما يكون بسبب سوئ استخدام الإنسان لإرادته الحرة [54].

يشير أغسطين في  كتابه اعترافاته؛ أنّه بعد اطلاعه على الأفلاطونية المحدثة انتقل من النزعة المادية الحسية إلى النزعة العقلية الأفلاطونية المحدثة كما يقول عبد الرحمان بدوي: " الفلسفة الخالصة التّي لا تعرف الإيمان إلى الفلسفة المؤمنة، أي تقوم على الإيمان "[55]

استطاع أغسطين أن يستفيد من الفلسفة الأفلاطونية بطريقة إيجابية [56] ، وذلك حين إنتهل منها الكثير من المعارف وفي نفس الوقت رفض بعض الآراء التّي لم يقتنع بها ورفضها مقدما آرائه المعاكسة .

فالفلسفة الأفلاطونية صححت أفكار أغسطين عن الله إذ يقول: "بعد مطالعتي مؤلفات الأفلاطونية...ادركت أنّك موجود وأنّك لا متناه...وأنّك الكائن الدائم الذي لا يتغير "[57] .ولكن رغم الثراء الذي وجده في الفلسفة فإنّه لم يفوت فرصة اكتشاف الفخ المنصوب وهو خلو هذه الأفكار من اسم المسيح[58].

3-4 التقائه بامبروازيوس:

بعد انتقال أغسطين  إلى ميلانو في 384 م، وحصوله على منصب أستاذ بلاغة[59] بمساعدة "سيماخوس"[60] في المحكمة الإمبراطورية. أتيحت له فرصة التعرف على القديس "امبروازيوس"[61]، الذي فاقت بلاغته بلاغة "فوستيوس". ومع مرور الوقت داوم أغسطين على سماع مواعظ امبروازيوس وبدأ يدرك أن أفكاره مقبولة، غيرت رأيه شيئا فشيئا نحوى الإيمان المسيحي، خاصة وأن امبروازيوس لم يكن رجل دين فحسب بل كان مفسرا أيضا.

وذلك لمعرفته الواسعة وإتقانه اللغة الإغريقية التّي كانت أساس فهم الكتاب المقدس كما نبّه "امبروازيوس" أغسطين إلى اكتشاف العمق الرّوحي للكتاب المقدس وذلك عن طريق رسائل المفكر العظيم بولس[62].

لم يكن تأثير سيمليسانوس [63]Semplisianus  على أغسطين في اعتناق المسيحية بأقل أهمية، إذ له الفضل في اطلاعه على مقدمة إنجيل يوحنا. والتّي أورد فيها ملخصا عن العقيدة المسيحية، التّي سمح فيها بالمواجهة بين الأفلاطونية  والمسيحية[64]. كما اطلعه "سيمبليسيانوس" على اعتناق "ماريوس فكتورينوس" Marius Victorinus النموذجي للمسيحية والتّي وجب الاقتداء بها. 

في تلك الفترة التي قضاها أغسطين بميلانو، كان يسكن مع صديقه أليبيوس Alypius، وفي احدى الأيام زارهما صديق من الأفارقة الشماليين ويدعى "بونتيكيانوس" ، كان شخصية تشغل منصبا رفيعا في الدولة.  وبعد نقاش دار بينهما حول المسيحية اخبرهم عن الناسك المصري "أنطونيوس"[65]  الذي قرر اعتزال كل مغريات الحياة،  وذلك بالتخلي عن الوظيفة  والزواج والمجتمع، من اجل التفرغ لخدمة الله[66] . تأثر أغسطين بهذه القصة واندهش بأولئك الأشخاص الذين استطاعوا أن يسيطروا على عواطفهم وشهواتهم. وفكر في ضعفه الشخصي إذ يقول في اعترافاته

" التفت إلى أليبيوس كان مظهري يعبر عن الثورة المختلجة لذهني ثم قلت بتعجب ما بالنا نحن؟ و ماذا تعني هذه القصة؟ فهؤلاء  الرجال لم يحصلوا على تعليمنا ولا على ثقافتنا ومع ذلك فهم ينهضون ليفتحوا أبواب السماء ويدخلوا إليها بينما نحن مع كل ثقافتنا وعلومنا نقبع هنا مذلين ....في دنيا اللحم و الدم.[67]"

احتاج أغسطين في هذه الأثناء إلى أن ينفرد بنفسه، فانقاد إلى حديقة بجانب الدار حيث ارتمى تحت شجرة التين، وأطلق العنان لدموعه التي أبت أن تتوقف، واخذ يؤنب نفسه إذ يقول:" إلى متى سأبقى أؤجل إلى الغد ثم إلى الغد الأخر...لماذا لا أضع حدا لخطاياي في هذه اللحظة بالذات.[68]"

وعندما سمع أغسطين صوت طفل صغير، لم يميزه صوت طفل أو طفلة يكرر المرة تلوى الأخرى:" خذه واقراه." فأحس أن هذا أمرا صادراَ من الله، يناديه فاتجه مسرعاَ إلى الكتاب الذي يحوى رسائل بولس. امسكه وفتحه بعشوائية يقرأ أول فقرة به والتّي تقول:"...لا بالبتر والسكر لا بالمضاجع والعهر لا بالخصام والحسد بل البسوا الرّب اليسوع ولا تصنعوا تدبيرا للجد لأجل الشهوات .[69]"

بعد هذه الحادثة شعر أغسطين بالسلام مع نفسه، وقد انتهى صراعه المرير، لكن لم يكن يعرف ما يخبأه له المستقبل، ومع ذلك كان على قناعة أن لا شيء اصعب في الحياة، إلا أن تكون بعيداَ عن المسيح. إذ يقول:" لقد صنعتنا لك ولا يمكن لقلوبنا أن تجد السلام إلاّ عندما ترتاح فيك.[70]"

شعر أن الله يدعوه إلى شرح الإنجيل ونقل فحواه إلى صفوة القوم في الإمبراطورية، فانكب مع ابنه "أديوتاتوس" و"أليبيوس" على دراسة العقائد الأساسية للإيمان المسيحي. وذلك في أقسام الدراسة التّي كانت الكنيسة قد أعدتها في ميلان للذين كانوا يطلبون المعمودية. وبعد أن انهوا دراستهم جرت معموديتهم على يد "أمبروازيوس" في جوّ من الفرح العام 387 م[71] .

أصبح أغسطين مسيحياَ بأتم معنى الكلمة، ليس له حرفة إلا الإيمان المسيحي. منذ سنة 386م قرر أن يكرس حياته لخدمة الله[72] ،  وهذا يعني تخليه عن وظيفته كمعلم  والتراجع عن زواجه المرتقب .

 

الخاتمـــــــــــــة :

إن سردنا لأهم محطات حياة القديس أغسطين يمكن أن تمنحنا فرصة الربط بين حياته وعالمه الفكري. عليه يمكننا القول أن أغسطين كان يحمل في فكره وذاته المسيحية، ولم تغب عنه لحظة. ودليل ذلك هو رفضه في كل مرّة مختلف المذاهب والآراء لسبب واحد لا غي،ر وهو غياب اسم المسيح. وكأن أغسطين كان يبحث عن من يثير فيه الروح المسيحية، ويوقظها، أو يريد إجابة لجملة عن جملة التساؤلات التي كانت تراوده، والتى عجز عن الوصول إليها. خاصة و أن طبيعة تكوينه العلمي كانت موسومة بالاطلاع التام على علوم عصره، إل جانب إحاطته بشتى المعارف والروافد الفكرية. وهذا يظهر جليا من خلال إنتاجه الفكري الغزير والمتنوع.  فاطلاعه على الكتب الفلسفية وعلى وجه الخصوص كتاب "هورثنيوس" نبّهه إلى طرح التساؤلات. وانتقاد الأفكار والراء قبل قبولها بل وانتقاء ما هو منطقي وواقعي. وهذا ما طبقه مع الفلسفة الأفلاطونية التّي جعلته يدرك أن مصدر الشرّ في الحقيقة ليس جوهره الإنسان، بل هو ناتج عن سوء استخدام الإنسان لإرادته. الأمر الذي قربه أكثر من المسيحية، باعتبار أن هذا التفكير ليس من المبادئ الأفلاطونية فحسب لكن من مبادئ المسيحية كذلك. 

إن أهم الأحداث التّي ميزت تواجد أغسطين بميلانو هو التقاءه بامبروازيوس الذي فتح أمامه أبواب لم يستطع أن يلجها من قبل. ونقصد هنا فك رموز الكتاب المقدس، الذي كان غامضا بالنسبة له، وذلك لجهله للغة الإغريقية. فقد عانى أغسطين صعوبات كبيرة في تعلم اللغة الإغريقية، التّي اظهر كرهاَ شديداَ لها، ولم يتمكن من تلقي قواعد متينة فيها. الأمر الذي لم يستطع تعويضه فيما بعد. فكثير من الكتابات تؤكد على أن أغسطين إلى غاية 400 م كانت معرفته بهذه اللغة ضعيفة، ومتواضعة جدًا. لا تتعدى استعمال مصطلحات تقنية في الفلسفة. فاللغة الإغريقية إذن ظلت بالنسبة لأغسطين غامضة حتّى أواخر حياته، عكس اللغة اللاتينية التّي اظهر فيها مهارات منذ الصغر. 

استطاع بذلك "أمبروازيوس" دون أن يدري الإجابة على التساؤلات التّي تشغل فكر أغسطين وطالما بحث عن إجابات لها. من أهم هذه التساؤلات هي طبيعة الله. فان كان الإنسان على صورة الله ( المسيح ) ، فان الله على صورة الإنسان له جسد بشري. فجاءت إجابة أمبروازيوس أن طبيعة الله تظهر في الإنسان في جانبها وطابعها الروحي لا الجسدي، وقد أثرت هذه الإجابة أيما تأثير في أغسطين.

من خلال ما سبق يمكن القول أن تحول أغسطين من شاب مستهتر غير مسؤول، لهى بأسمى إلى رجل دين كرّس كل حياته إلى خدمة الكنيسة المسيحية ، كان ناتج عن تظافر عدة عوامل، فتحوله لم يكن وليدة لحظة أو تحول مفاجئ بقدر ما هو عبارة عن تراكم عقائدي، معرفي وفلسفي. إذ البداية كانت من محيطه الصغير ونقصد هنا والدته المسيحية. وبالتالي حمل تعاليم المسيحية من دون أن يدري، كما لاحظنا أن أغسطين كان بطبعه اجتماعي، فلم يعرف في حياته طابع الانعزال عن الأخرين. كان دائم الانفتاح على الأصدقاء أميل إلى اللقاءات مع الأخرين. وقد كان لهذه العلاقات المختلفة تأثير كبير في تكوين شخصيته، بالإضافة إلى عيشه حياة فكرية عرفت الكثير من التقلبات. بدءا بالفلسفة التّي أثارت فيه روح التفلسف والبحث عن الحقيقة، مرورا بالمانوية فالأفلاطونية التّي قربته من المسيحية، وأخيراَ وقوعه تحت تأثير "أمبروازيوس" هذا القديس، المفكر ،المفسر والفيلسوف، الذي استطاع أن يجمع بين شتات أفكار أغسطين بين تعاليم المسيح والفلسفة والحقيقة.

مارست التجارب العلمية الفلسفية المذهبية التّي مرّ بها أغسطين تأثيراتها حتّى بعد تحوله إلى المسيحية. وذلك بتبنيه عدة أفكار منها المفهوم المادي لطبيعة الإنسان الشريرة التّي اقتبسها من المانوية، أمّا الأفلاطونية فتظهر عندما اعتقد أغسطين أن الإنسان روح تستخدم جسد.

 

قائمة المصادر والمراجــع:

آلان د. فيتزجيرالد. (2010). أغسطين عبر العصور. ط1. (حكيم ميخائيل، مترجم). د.م.

ايمار، أندريه (1986). تاريخ الحضارات العام (روما وإمبراطورياتها). (ج2). (ط2). (فريد داغر وفؤاد أبو ريحان، مترجمان). لبنان: منشورات عويدات.

الأنبا، متاؤس (2009). نسكيات الأنبا أنطونيوس(حياته، رسائله، تعاليمه ). ط1. مصر: دار الكرمة للطباعة.

بدوي، عبد الرحمان (1979). فلسفة العصور الوسطى. ط3. لبنان: دار القلم.

البشروئي، سهيل ويمراد، مراد (د.ت). تراثنا الروحي (من بدايات التاريخ إلى الأديان المعاصرة). ط1. (محمد غنيم، مترجم). لبنان: دار الساقي.

جاريث، ب.ماثيور (2013). اغسطين. ط1. (ايمن فؤاد زهري، مترجم). مصر: آفاق للنشر والتوزيع.

الخضيري، محمد زينب (1992). لاهوت التاريخ عند القديس أغسطين. ط1. مصر: دار الثقافة للنشر والتوزيع.

الحويري، محمود محمد. (1995). رؤية في سقوط الإمبراطورية الرومانية. ط3. مصر: دار المعارف.

جيووايد، نغرين (1985). ماني والمانوية، دراسة لديانة الزندقة وحياة مؤسسها. ط1. (سهيل زكار، مترجم). (د.م): دار حسان.

روبين، دانيال (1999). التراث المسيحي في شمال إفريقيا، دراسة تاريخية من القرن الأول إلى القرون الوسطى. (سمير مالك، مترجم) لبنان: دار منهل الحياة.

زيعور، علي. (1983). أغسطين (مع مقدمات في العقيدة المسيحية والفلسفة الوسطية). ط1. لبنان: دار اقرأ.

المحجوبي، عمار. (1998). أبوليوس. ط 1. تونس: بيت الحكمة. 

القديس أغسطين . (1996). اعترافات. ط5 .(الخوري يوحنا الحلو، مترجم). لبنان: دار دمشق. 

القديس أغسطين. (2007). تعليم المبتدئين أصول الدين المسيحي في الحياة السعيدة. ط1.(يوحنا الحلو، مترجم). لبنان: دار دمشق.

القديس أمبروسيوس. (1996). الأسرار.  ط2. مصر: بيت التكريس لخدمة الكرازة. مؤسسة القديس أنطونيوس.

المبكر، محمد. (2010). شمال إفريقيا القديم (حركة الدوارين و علاقتها بالدوناتية 305-429م ). ط1. المغرب: مطبعة النجاح الجديدة.

نعمة، حسن.(1994). موسوعة الأديان السماوية والوضعية، ميثولوجيا وأساطير الشعوب القديمة. لبنان: دار الفكر اللبناني.

يويو، جان. (2002). أوريجانس باحث مولع بالحقيقة، تاريخ الكنيسة المفصل. مج1. ط1. (انطوان الغزال وصبحي حمودي اليسوعي، مترجمان). لبنان: دار المشرق.

يوسف، كرم. (2012). تاريخ الفلسفة الأوربية في العصر الوسيط.  مصر: مؤسسة الهنداوي للتعليم والثقافة.

 

Biechy, Amand .Saint Augustin de l’Afrique au Ve  Siècle. 1ere éd. Barbou    frères  imprimeurs.

Brown,  Peter (2001). La vie de Saint Augustin. (Jeanne Marrou , traductrice) . France: Édition Seuil.

Decourcel,  Dominique (1995). Augustin le génie de l’Europe (354-430). France: édition  Janlate.           

Djedaite, Mahmoud (2009). Saint Augustin fils de Thaguest et Numidie. Algérie: édition APIC .                             

Fredoulle, Jean Claude (1867). Dictionnaire de la civilisation romaine. 1ere.

Fitzgerald, Alland. (2005). Encyclopédie Saint Augustin, la méditerranée et l’europe. Ive-XXIe siècle. France: éd le Serf.

Possidius (2008). Life of Saint Augustine. (Herbert Theberath Weiskotten, translator). United States of America: ChV, Evolution Publishing Merchantville.     

Saint Augustin. Lettre VI V VII.

Songno, Cristiana . Symmachus, Aurelius. (2006). A political biography. University of   Michigan press.

Victorinus, Marius (1960). Traités théologiques sur la Trinité. T.I. (Pierre Hadot, traducteur). Paris: édition le Serf.