اكتشافات اثرية في مقابر رومانية تظهر عادات الدفن
وتشهد على روعة الهندسة القديمة في مدينة "نيابولس الرومانية"
د. امنة أبو حطب
فلسطين
المقدمــــــــــة:
تميزت نابلس بموقع جغرافي استراتيجي جعل منها مدينة تاريخية واقتصادية ومحط اهتمام الغزاة والطامعين. فضلا عن انها مدينة اثرية، حظيت باهتمام كبير من الدارسين والباحثين. بوصفها مدينة فلسطينية مهمة شهدت ارضها نشاطات وتحركات وصراعات، كما انها رمز للعطاء والابداع والحضارة.
فهي تحتل موقعاً متوسطاً بالنسبة لمدن فلسطين، وقد أكسبها ذلك شهرة وأهمية. وحظيت مدينة نابلس باهتمام الجغرافيين والرحالة العرب والمسلمين، الذين أَظهروا لنا جوانب مهمّة من حياة المدينة السياسية والدينيّة والفكريّة. ولا زالت المدينة تفخر بتراثها وأمجادها ومواقف رجالها، المتسمة بالمحافظة على القيم والتقاليد العربية والإسلامية وشدة بأسهم بالجهاد والمقاومة.[1]
وبوصفها مدينة قديمة أيضاً فقد تعاقب على السكن، على أرضها أقوام عربية عصراً بعد عصر. وبرز العديد من رجالها على مسرح الأحداث السياسية والدينية والثقافية والعلمية، وكانوا مصابيح لامعة في سجل التاريخ العربي والإسلامي.
وقد أوردت التوراة أهمية مدينة نابلس الزراعية والدينية، فاتخذها يعقوب عليه السلام مسكناً له ولأبنائه: "ومضى أخوتُهُ ليرعوا غنم أبيهم عند شكيم.[2]" أما أول إشارة من المؤرخين العرب والمسلمين إلى مدينة نابلس فكانت من "البلاذري" صاحب كتاب "فتوح البلدان".[3]
أما الإصطخري (المتوفى سنة 340/ 951م ) وهو رحالة جغرافي، فقد أشار إلى ارتباط "السامرة" "بنابلس"، وكذلك كثرة مياهها الجارية، ذكر ذلك في كتابه: "المسالك والممالك "فقال: "نابلس مدينة السامرة يزعمون أن بيت المقدس هو نابلس وليس للسامرة مكان من الأرض إلا بها، وليس بفلسطين بلدة فيها ماء جار سواها، وباقي شرب أهلها من المطر، وزرعهم عليه.[4]
وقد أشار إلى أنها مدينة معروفة ومشهورة بأرض فلسطين، تقع بين جبلين مستطيلين لا عرض لها. وتتميز بكثرة مياهها. وفي ذلك يقول: كثيرة المياه لأنها لصيقة في جبل، أرضها حجر.[5]
اهتم الرومان بمدينة نابلس منذ تأسيسها وكانت من اهم المدن في فلسطين، وأول من اعتنى واهتم بها الامبراطور "فسبسيان" الذي حكم خلال السنوات 69-72 م ، وجعل من المدينة ذات طابع روماني عندما اقام عليها العديد من المنشآت المعمارية الرومانية.[6]
وازدادت هذه المكانة وهذه الأهمية في عهد القيصر "فيليب العربي"(244-249)، وأصبحت نابلس بمستوى مدينة رومانية، وجميع نقوشها تكتب بالرومانية واستمر هذا الحال حتى القرن الرابع الميلادي.
وترك الرومان اثار مهمة من معابد ومسارح وحمامات وميادين للسباق، وبالتالي فان هذه الاثار أصبحت جزء أساسي وحيوي من تاريخ فلسطين. وهي ثروة وطنية وعمق تاريخي، فضلا على انها ثروة اقتصادية في مجال السياحة، ومن أهم هذه الاثار المقابر الرومانية نوردها فيما يلي:
المقبرة الرومانية الشرقية - عسكر:
القبر في العهد الروماني عبارة عن "ران حجري" مستطيل الشكل مزين، على واجهته الرئيسية رسوم حيوانات مثل النسور والسحالي. وكذلك النباتات، وهذا الران (التابوت- الصندوق)، يوضع عليه غطاء حجري جملوني الشكل وغير جملوني في بعض الأحيان. يختم مع التابوت بواسطة مغلاق، مصنوع من الحديد الذي يمزج ويصب مع الرصاص المغلي.
يعتبر أسلوب القبر هذا أسلوبا خاصا بالرومانيين، وقد استعمل في المناطق ذات الثقافة والطابع المدن،ي وكذلك عند أصحاب الثروة والأغنياء في المناطق القروية طيلة العهد الروماني. وفي الوقت نفسه فإن الأسلوب الأخر القديم والخاص بدفن الموات داخل سراديب بأبنيته المقنطرة، لم يتوقف وإنما استمر هو الأخر في الاستعمال، إلى جانب هذا الأسلوب الروماني طيلة العهد الروماني البيزنطي أيضا.
أما مرفقات الميت فقد تغيرت هي الأخرى في هذا العهد الروماني، فبعد أن كان قديما يوضع مع الميت أدوات فخارية عديدة، أصبح يوضع معه في هذا العهد الروماني أدوات زجاجية صغيرة. احتوت على عطور وأمتعة شخصية، وأحيانا أدوات ذهبية وكذلك أباريق. استخدمت ربما في غسل الميت، ودفنت معه لنجاستها.
تقع المقبرة الرومانية الشرقية في قرية عسكر شمال شرق "تل بلاطة" الأثري، على أول الطريق المقابل لمدرسة "قدري طوقان"، والمتفرع شمالا عن شارع "عمان". على المنحدرات السفلى "لجبل عيبال". وقد اكتشفت صدفة أثناء قيام أحد المواطنين في المنطقة بالحفر لبناء بيت له سنة 1978م.
تتكون هذه المقبرة من غرفة فاخرة جدا، وشبه مربعة الشكل وتبلغ أبعادها 6.6متر مربع تقريبا. يغطيها سقف على شكل قبة، ويؤدي إليها باب حجري من قطعة واحدة. يدور على محور مع يد حديدية. وفي واجهتها الرئيسة يقوم عمودين منتصبين على قواعد حجرية، ومساحة مرصوفة بالفسيفساء البيضاء. كما تحتوي هذه المقبرة على عشرة من التوابيت "ران الحجرية المزينة بالزخارف المعمارية الجميلة، ويقوم بقرب أحد هذه القبور بئر ماء كان يستعمل لتطهير الموتى.[7]
يشير واقعها الأثري إلى أنها تعود في بناؤها إلى القرن الأول الميلادي. تشير الكتابة اليونانية على واجهة القبر الموجود في صدر المقبرة، الى قبر مؤسس أو باني المقبرة، على انه قد احتفظ باسمه الأصلي.
في حين تشير الكتابات اليونانية الأخرى، والخاصة بالقبور القائمة أمام وعلى جانبي قبر المؤسس، الخاصة بالأبناء والأحفاد، على أن أسماؤهم قد تبدلت لتصبح يونانية.
وتبعا لما يتوافر في هذه المقبرة من عناصر معمارية وزخرفية غنية، وتبعا لوجود الفسيفساء البيضاء النادرة في المقابر، غلا في عهد مدينة "نيا بولس"، الرومانية فإنه يعتقد بأن هذه المقبرة تعود لأحدى عائلتها الثرية.[8]
كما ويشير الواقع الثري لهذه المقبرة أيضا، على أنها قد استعملت مرة أخرى خلال القرنين الثاني والثالث الميلاديين من العهد الروماني. حيث تم الكشف فيها عن فخار يعود الى هذا العهد الثاني من تاريخها.
- المقابر الأثرية في سبسطية:
تنوعت أساليب الدفن في المدينة تبعا للفترة التاريخية، وأيضا بحسب المكانة الاجتماعية والسياسية للشخص. معظم المدافن الأثرية وجدت خارج أسوار المدينة، خاصة على السفوح المحيطة بالمدينة من جهاتها الأربعة. وقد كانت هذه المقابر ومنذ أمد بعيد عرضة للسرقة من قبل لصوص الآثار. نذكر أهمها كما يلي:
- 1. مقبرة القبة في مركز القرية القديم:
على سبيل الصدفة، وفي عام 1910 م أثناء قيام أحد المواطنين بحفر أساسات لبناء بيت تم العثور على هذه المقبرة Mausoleum ، ولم يتم حفرها إلا في عام 1937م. حيث أظهرت الحفريات أن هذه المقبرة عبارة عن غرفة سقفها على شكل قبة، تضم بداخلها حجرة الدفن بمساحة 330×330 سم. المدخل مغلق بباب حجري. تم البناء بواسطة حجارة مدقوقة بشكل جيد، يتقدم المدخل رواق محمول على أعمدة حجرية. تضم هذه المقبرة خمس توابيت حجرية، مزخرفة بزخارف نباتية وهندسية وآدمية رائعة الجمال. ونظرا لوجود هذه المقبرة على عمق كبير جدا، حاولت دائرة الآثار الأردنية في حنيه، نقل وتجميع هذه المقبرة عند الطرف الشمالي "للفورم"، ولكن هذه المحاولة لم تكتمل، ولا تزل القاعدة الإسمنتية وكذلك حجارة بناء غرفة الدفن قرب "الفورم". ولكن لا يعرف مصير معظم التوابيت الحجرية، باستثناء ما بقي منها في موقع المقبرة.
ويعود تاريخ هذه المقبرة إلى القرن الثاني للميلاد، هي التي اكتشفت على السفح الشرقي المقابل للمدينة، وهي عبارة عن غرفة منحوتة في الصخر، تتقدمها ساحة مبلطة وتضم عددا من التوابيت الحجرية المزخرفة.[9]
- المقبرة الرومانية الغربية:
تقع عند المدخل الغربي لمدينة نابلس الحديثة، على طريق نابلس – طول كرم، وعلى المنحدرات السفلى لجبل عيبال (الشمالي). جوار غرب محطة التميمي، ومقابل مطحنة القمح. في سنة 1960م قام أحد المواطنين بالحفر لبناء بيت في هذه المنطقة حيث ظهرت بعض القبور الرومانية. ونتيجة لهذا قامت دائرة آثار نابلس سنة 1966م، بمتابعة أعمال الحفر والتنقيب في هذه المنطقة، فاكتشفت فيها أعداد كبيرة من القبور الحجرية وثلاث غرف للدفن.
وفي سنة 1982م، قامت دائرة آثار الاحتلال الإسرائيلي، بإعادة فحص المنطقة ودراستها حيث تبين أنها تمتد شرقا إلى ما أسفل مدرسة الكندي المجاورة لها.[10]
يستفاد من الحفريات الثرية التي أجريت في هذه المقبرة بأنها تكون معماريا من ثلاث مغاور، أو كهوف، نحتت بالصخر وأغلقت فتحاتها الجنوبية بأبواب حجرية، لا تزال ماثلة للعيان إلى اليوم. حتى أن بعضها لا زال يمكن تحريكه على محوره إلى اليوم. ويقوم أعلى هذا الباب الحجري شبكة حجرية على طول عرض غرفة القبو، الذي يغطيه قبو واطئ .
وتحتوي كل من هذه المغاور الثلاث على عدد من القبور الحجرية "ران" مستطيلة الشكل، ومزينة واجهتها الرئيسية بأشكال حيوانية ونباتية. والموزعة على مختلف جوانب المغارة الواحدة. ويعتقد معها بان القبر الذي يتصدر واجهة المغارة مقابل المدخل، على الأرجح لمؤسس أو باني المغارة أو المقبرة في حين أن بقية القبور تعود لأبنائه أو لأفراد عائلته.
كما ويتقدم هذه المغاور الثلاث أرضية واسعة، ساحة مكشوفة، مبلط بالبلاط الحجري. والتي يقوم فيها أيضا عدد آخر من القبور الحجرية، على غرار القبور القائمة داخل غرف المدفن . مما يعني بأن المدفن أو القبر في هذه المقبرة لم يكن مقصورا على داخل المغاور، وإنما على خارجها أيضا. كما ويقوم في النهاية الشرقية الشمالية من هذه الساحة المبلطة، بئر للماء ويشير واقعها الأثري إلى أنها تعود إلى القرن الثاني-الثالث الميلادي.[11]
- مقبرة الورش – دوار عصيره الشمالية:
تقع على المنحدرات السفلى لجبل عيبال، أسفل محاجر الورش (سما نابلس حديثا)، حيث دوار عصيره الشمالية، وبالتحديد جوار غرب عمارة الصالحية. وقد اكتشفت صدفة سنة 1996م، أثناء الحفر لأساسات العمارة المذكورة.
تتكون المقبرة من غرفة واحدة منحوتة في الصخر، ولها مدخل شمالي صغير دائري في أعلاه. يغطيها باب حجري على غرار مداخل المقابر الرومانية الأخرى. يقوم داخلها ثلاث قبور حجرية (رانات – توابيت)، في حين يغطيها السقف الحجري الذي ارتفاعه بارتفاع قامة الرجل.
ولا تشير أرضيتها إلى أنها كانت مبلطة بالفسيفساء أو غيره. كما أن واجهات قبورها مزخرفة بزخارف هندسية، مما يشير إلى أن أصحابها كانوا من ذوي الطبقة المتوسطة الحال في العهد الروماني. كما ان واقعها الأثري والفخاريات التي اكتشفت فيها تدل على انها تعود في بنائها الى القرن الثاني – الثالث الميلادي .[12]
الخاتمـــــــــــــــــــــة:
لمدينة نابلس الفلسطينية عمق تاريخي يمتد الى الاف السنين، مما يعني انها منطقة تحمل هوية فلسطينية كنعانية راسخة ثابتة. وبالتالي فإن أي عوامل وظروف ومتغيرات لا تلغي هويتها الفلسطينية العربية الكنعانية التي تكونت عبر التاريخ.
وفي كل العصور والازمنة التي عاشتها نابلس جعلت منها جزء من الهوية والتاريخ الفلسطيني، وبالتالي فإن دراسة تاريخها هو دراسة لتاريخ فلسطين.
قائمة المصدار والمراجـــــــــــــــــع:
التوراة. سفر التكوين
البلاذري، أبو الحسن احمد بن يحيى بن جابر (1983). فتوح البلدان. بيروت.
الاصطخري، أبوا إسحق إبراهيم بن محمد. (1987) . المسالك والممالك.
الدومسكي، مرمرجي. (1997) . بلدانيه فلسطين. منشورات المجمع الثقافي.
العايدي، محمود. (1973) . الآثار الاسلامية في فلسطين والأردن. عمان.
كلبونة، عبد الله صالح. المواقع والأبنية الأثرية والتاريخية.
كلبونة، عبد الله صالح. (1992). تاريخ مدينة نابلس(2500ق.م-1918م). نابلس.
Magen, flavia. Neapolis.vol.1.