من الاستحكامات الدفاعية الفريدة في قلعة اربيل

نمط (( المباني المتراصة ))

  

الأستاذ الدكتور محمد طه الاعظمي

العراق - بغداد


إن  أكثر ما كان يراود هاجس الانسان ، ومايزال هو البحث عن وسائل يمكن من خلالها ادامة نمط حياته وتأمين حماية فعالة لها ، يدرء بها الاخطار المحدقة به من كل صوب ابتداء من مشاكل البيئة وتقلبات المناخ مرورا بحماية نفسه وأنعامه من أن تقع فريسة للحيوانات المتوحشة وان تصبح لقمة سائغة لها ، وقبل هذا وذاك كان عليه أن يحمي نفسه وعائلته من جيرانه من بني البشر الساكنين معه والمتطلعين الى ممتلكاته بعين الكلالة والطمع وان يدفع خط اعدائه التقليديين سكان المستوطنات الاخرى الذين تستهويهم شهوة السلطة وحب التوسع والسيطرة على الاخرين.

وإزاء تلك المخاوف والهواجس التي كانت تنتاب الانسان ولاتزال فقد عمل جاهدا وبكل وسيلة ممكنة ليجد لنفسه حلولا يدفع بها الاذى عن نفسه وممتلكاته وصولا الى حماية المستوطن الذي يعيش فيه.لذلك ابتكر وسائل دفاعية مختلفة عبر العصور ابتداء من اختيار المسكن المنيع وصولا الى تحصين مستوطنه باجمعه فحفر الخنادق وشيد الاسوار والابراج وغيرها من الوسائل الدفاعية المختلفة.

ومن تلك الانماط الدفاعية التي ابتكرها الانسان هو نمط (المباني المتراصة Cohesive structures System) .

وفي دراسة سابقة لنا اوضحنا فيها اننا نعني بهذا النوع من الاستحكامات استحداث طريقة خاصة في بناء المرافق العمارية للمستوطن وبالتحديد عند الاقسام الخارجية بشكل متلاصق بعضها مع بعض وفق امتدادات يحددها شكل المستوطن ونمط توزيع المراكز الحيوية فيه ، فتؤلف تلك المباني المتراصة حول المستوطن او احيانا حول الاقسام الاكثر اهمية فيه، تؤلف حاجزا دفاعيا فعالا يغنيها عن حفر خنادق أو بناء أسوار حولها([i]). ولزيادة فعالية القوة الدفاعية لذلك الحاجز يصار الى تشييد تلك المباني او على الاقل واجهاتها الخارجية بجدران سميكة ودعامات ساندة تجعل من كل وحدة بنائية حصنا منيعا قائما بحد ذاته .

وتجدر الإشارة إلى أن هذا النمط من الاستحكامات الدفاعية له ميزات وخصائص كثيرة شجعت المستوطنين على استخدامه دون بقية الانماط الاخرى ومنها توفير الاموال الطائلة التي كانت ستصرف فيما لو بني سور او حفر خندق حول المستوطن، فهذه من المشاريع المكلفة جدا والتي تتطلب أموالا باهضة لتحضير المواد الاولية او لدفع اجور العمال واتعابهم. كذلك فان استخدام هذا النمط من الاستحكامات فيه توفير كبير للوقت وتوفير في الجهود البشرية الموجهة للبناء ، وفيه  يتمكن المستوطنون من تحصين مدينتهم بوقت قصير وبجهود بشرية متواضعة وفي الوقت نفسه فانهم بعلمهم هذا انما يبنون لهم بيوتا يسكنون فيها وجدرانا منيعة يحتمون خلفها.

ومن الخصائص الأخرى لهذا النوع من الاستحكامات هو امكانية بنائه  وتنفيذه دون حاجة الى سلطة قوية او ادارة واسعة تشرف على عملية البناء وتقود الجموع     المنفذة له كما في بناء الاسوار او حفر الخنادق ، فمن المعروف ان عملية بناء الاسوار حول المدن تتطلب تخطيطا مسبقا تقوم به سلطة قوية وادارة حازمة بامكانها توفير المواد الاولية وقيادة وتنظيم الجموع البشرية المنفذة له ، والتي يستمر عملها لعدة اشهر او عدة سنوات في بعض الاحيان.

أما أهم ميزات هذا النوع من التحصينات فيتمثل في استغلاله لمساحة ارض المستوطن على اكمل وجه دون التفريط  بشبر منها .فمن المعروف أن بناء سور او حفر خندق حول المستوطن يعني استقطاع مساحة كبيرة من الارض لاقامة ذلك السور حولها ، بالاضافة الى حجز مساحة اخرى لتكون ارضا مفتوحة  يستخدمها المدافعون للحركة والتنقل .اما في هذا النوع من الاستحكامات وفي موقع مدينة اربيل بالذات فان مساحة الارض كانت صغيرة ومحدودة الامتداد مع حافات المرتفع الذي امتدت عليه ، لذلك فان استخدام نمط المباني المتراصة في دفاعات المدينة كان ينم عن ذكاء وفطنة وفهم كبير لاهم ميزاته الا وهي استغلال ارض المستوطن باجمعها دون استقطاع اي قسم منه لبناء سور او حفر خندق ودون هدر اي مساحة من الارض مهما كانت صغيرة ، فقاموا بتشييد بيوتهم على جميع امتدادات الموقع وصولا الى حافات التل ، وبهذه الطريقة تمكنوا من بناء واقامة اكبر عدد من البيوت والمقرات الخدمية داخل مدينتهم، وفي الوقت نفسه ازداد عدد المستوطنين القاطنين في المدينة التي اصبحت تستوعب اعداد غفيرة من السكان تبعا لزيادة عدد البيوت التي تمكنوا من اقامتها داخل مدينتهم .

تأريخ الاستيطان في اربيل

أما قلعة أربيل مدار بحثنا هذا فهي من المواقع الاستيطانية المهمة في المنطقة ويرجع تاريخ الاستيطان فيها الى عصور موغلة في القدم ترجع على الاغلب الى اواسط العصر الحجري الحديث ،أما اقدم اشارة تاريخية للمدينة فترجع الى عصر سلالة اور الثالثة زمن ملكها شولكي (2094 – 2047 ق.م ) الذي ارخ سنة حكمه الخامسة والاربعين بضمه مدينة اربيل مع مدن أخرى إلى سلطانه([ii]). ثم اعاد الملك امار سين(2046 – 2038 ق.م  )  فرض سيطرته عليها في سنة حكمه الثانية وصب عليها جام غضبه بعد دحره لتمرد فيها([iii])  . ويبدو انه بعد نهاية حكم سلالة اور الثالثة وتشكل ممالك متفرقة في البلاد فقد اصبحت اربيل في بعض الاوقات تحت نفوذ مملكة اشنونا وبخاصة زمن ملكها نرام سين ( القرن 19 ق.م.) الذي وسع حدود مملكته شمالا لتشمل منطقة قبارا في سهل أربيل([iv]).

ثم ضمت  المدينة ومنذ العصر الاشوري القديم ضمن املاك الدولة الاشورية ، واصبحت مركزا لعبادة عشتار التي عرفت هنا باسم ( عشتار اربيل ) وشيد لها في المدينة معبدا كبيرا اطلق عليه اسم (أي.كاشان .كالاما )  . ويذكر عن سنحاريب (704 – 681 ق.م) انه اقام مشروعا اروائيا لمدينة اربيل على غرار مشروعه الشهير لأرواء مدينة نينوى .وبسبب أهمية المدينة فقد اخذت تضاهي العواصم الاشورية التقليدية وبخاصة عندما اتخذها الملك اشوربانيبال ( 668 -627 ق.م ) مقرا له ، حيث عمل على اعادة اعمار سور المدينة ومعبدها الرئيس. وبعد سقوط المملكة الاشورية أفل نجم المدينة وانقطع ذكرها ردحا طويلا من الزمن وصولا الى زمن الاسكندر المقدوني ، حيث يرد ذكر المدينة في المصادر الاغريقية عند حديثها عن الموقعة المشهورة التي دارت في سهولها بين جيوش الاسكندر المقدوني وجيوش الملك دارا الثالث ملك الدولة الاخمينية، والتي عرفت  بمعركة كوكاميلا ، والتي خسر فيها دارا المعركة عام (331 ق.م) .ثم يبدأ تأريخ جديد للمدينة في العصر الفرثي عندما اصبحت اربيل من المراكز الادارية المهمة لمملكة حدياب الارامية والتي كان نفوذها يمتد الى الفرات غربا ونصيبين شمالا .واستمر الاستيطان المكثف فيها منذ ذلك التاريخ تقريبا دون انقطاع يذكر حتى انها  ذكرت مرارا في كتابات البلدانيين العرب والذين كانوا يطلقون عليها تسمية  مدينة( اربل)([v]).

قلعة اربيل واستحكاماتها الدفاعية

يبدو انه بسبب تتابع الاستيطان في هذه البقعة من الارض فقد تشكل من جراء ذلك تل اصطناعي يصل ارتفاعه الى مايقرب من 27 – 32م فوق  مستوى سطح الارض المجاورة له ، اما قمة التل فقد كانت بامتداد اقرب الى أن تكون دائرية غير منتظمة أو بيضوية الشكل ، بابعاد تقرب من 430 ×340 م وبمساحة تقرب من 102,00 متر مربع([vi]) (شكل 1، 2) . ومع ارتفاع التل العالي هذا، فانه يتميز أيضا بشده انحداره الذي يبلغ قرابة 45درجة، مما يجعل من تسلقه والصعود اليه مشكلة بحد ذاتها وتعطي لهذا الموقع ميزة دفاعية تحسب لصالح المستوطنين او المدافعين عنه (شكل 3 ، 4).

وفي مراحل الاستيطان المتأخرة في هذا الموقع، فقد عمد المستوطنون الى  استخدام تقنية خاصة لحماية مدينتهم تلك مستفيدين ومستغلين ارتفاع المستوطن وانحدار حافاته ، بطريقة تنم عن فطنة وذكاء وحسن تدبير لامور الحرب والدفاع ، فقاموا من اجل ذلك باللجوء الى نمط خاص من أنماط الاستحكامات الدفاعية ألا وهو (( نمط المباني المتراصة)) ، حيث قاموا ببناء المرافق العمارية المختلفة المتواجدة على المحيط الخارجي للتل ، والتي يصل عددها الى قرابة مئة بيت ، قاموا ببنائها الواحد لصق الاخر بدون ان تتخللها اية فضاءات او مساحات خالية فيما بينها ، كما عمدوا الى ان تكون الجدران الخارجية لتلك المباني بسمك وارتفاع كبير. كذلك فقد شيدوا لصق تلك الجدران ما يشبه الابراج اوالدعامات الساندة من اجل زيادة فعاليتهاالدفاعية ولتحميها في الوقت نفسه من السقوط والانهيار من منحدر التل، فتشكل نتيجة لذلك حاجزا منيعا كانما هو سور مرتفع يحيط بالمدينة ويحميها من كل جانب.( شكل 6 ، 7)

أما الدخول إلى المدينة فقد كان يتم عبر مدخل رئيس فتح عند الجانب الجنوبي من المدينة ( شكل 8 ، 9 ، 10 ) وهناك مدخلين ثانويين فتحا عند الجهة الشمالية والشرقية من المدينة (شكل 11) ، ومن اجل اقامة تلك المداخل فقد عمدوا الى ترك مساحة من الارض خالية من البناء بين بيتين ثم قاموا بتشييد المداخل بطريقة دفاعية متقنة حيث كان واحد منها فقط كبيرا يوصل اليه عبر منحدر ترابي واثنان صغيران  يمكن غلقهما بسهولة في الحالات الطارئة .

الأصول الأولى لنمط المباني المتراصة

بينت الكشوفات والتنقيبات الآثارية على أن معرفة واستخدام هذا النمط من الاستحكامات الدفاعية يعود الى عصور موغلة في القدم وأن أشهر وأقدم مثال له في منطقة الشرق الادنى تعود لبدايات العصر الحجري الحديث بحدود الالف السابع قبل الميلاد حيث عثر على النماذج الاولى لهذا النمط من التحصينات الدفاعية  المشيدة وفق اسلوب (( ألمباني ألمتراصة ))  في موقع جطل هويوك , الواقع في سهل قونية غربي تركيا ( انظر الشكل(12) ، أقيم المستوطن فوق رابية طبيعية مرتفعة شيدت فوقها البيوت وفق طريقة دفاعية مبتكرة اذ كان كل مرفق عماري ملاصقا للبيت المجاور له،  بحيث كان الموقع خاليا من الشوارع والازقة الفاصلة بين البيوت ويندر فيه وجود فضاءات واسعة مكشوفة، اضافة الى أن الجدران الخارجية للمباني كانت خالية من الابواب والشبابيك اذ كان الدخول اليها والانتقال  بين بيت واخر يتم عبر سلالم خشبية توصل الى سطح الدار ومنها عبر منافذ صغيرة تقع اسفل افريز السقف تفضي الى داخل المنزل ،وفي الوقت نفسه يمكن الاستفادة من تلك النوافذ الصغيرة لاغراض الاضاءة والتهوية ، ومن خلالها ينحدر الى داخل الدار بواسطة سلم خشبي موضوع عادة لصق الجدار الجنوبي . ولكل بيت مثل هذا المدخل في السقوف التي شيدت بارتفاعات متباينة من منزل لاخر لتيسير الدخول والخروج منها ولتسمح في الوقت نفسه لاشعة الشمس من النفاذ عبر فتحات التهوية والانارة بشكل افضل مما لو كانت السقوف بارتفاع واحد([vii]).

وفي أوقات الأزمات وعند تعرض المستوطن الى اعتداء خارجي فان السلالم الخشبية الخارجية ترفع الى السطح وتصبح واجهات البيوت الخارجية بمثابة سور منيع يحد من تقدم المهاجمين والدخول الى المستوطن . وطبقا لما ذكره منقبوا الموقع فان النظام الدفاعي هذا كان ناجحا وفعالا بشكل مؤكد ، وذلك من خلال عدم العثور على ادلة اثرية بداخله تشير الى تعرضه لهجوم عنيف او تخريب متعمد لمدة تزيد على 800 سنة على الأقل([viii]).

إن أسلوب البناء الدفاعي المستحكم وفق هذا النمط الموسع الذي يشمل جميع انحاء ومرافق المستوطن لم يستخدم في بلاد الرافدين ، بل كان نمط بناء (( المباني المتراصة )) في العمارة العراقية القديمة مستخدما على نطاق محدود لاقسام خاصة من بعض المستوطنات ، والتي يبدو لنا انها كانت تمثل القسم الحيوي في الموقع ، او انها شيدت عند الجانب –او الجوانب- الضعيفة من المستوطن لغرض زيادة تحكيمه وليصبح الموقع تبعا لذلك منيعا ومستحكما من جميع جهاته .

ومن نماذج (( المباني المتراصة )) ما عثر عليه في موقع (ام الدباغية) ، من عصر حسونة في الالف السادس قبل الميلاد.  يقع المستوطن في منطقة سهلية مكشوفة في البادية الشمالية الغربية على بعد 15 كم تقريبا غرب مدينة الحضر وهي ارض منبسطة غير محمية بعوارض طبيعية أو بأي شكل من اشكال التحصينات الدفاعية الاخرى، لذلك فقد  ابتكر سكان المستوطن (وبخاصة في الطبقة 3 و 4 منه) نمطا جديدا في تشكيل الوحدات العمارية وتوزيعها على ارجاء المستوطن ، حيث كان القسم المركزي منها عبارة عن ساحة مكشوفة كبيرة يتوزع على جانبها الغربي عدد من الغرف وبيوت السكن ، اما الجهات الثلاث الاخرى المحيطة بالساحة فتضم مجمعين بنائيين شيدا بطريقة فريدة من نوعها ، تذكرنا باسلوب نمط بناء المساكن في جطل هويوك . (انظر الشكل 13) . اما المجموعة البنائية الشمالية فهي بطول 25 م . وتقع المجموعة البنائية الاخرى بامتداد الجهة الجنوبية والشرقية  وهي بطول 30م . المجمعان البنائيان بعرض واحد تقريبا يبلغ 6.45 م وتصميمهما الداخلي يبدو وكانهما بنيا وفق اسلوب ونظام موحد خاص .

يتألف التصميم الداخلي لكلا المجمعين من الغرف الصغيرة تصل الى 30 غرفة تقريبا بمساحة 1.50×1.75 م مبنية بشكل صفين متجاورين من الغرف الواحدة لصق الاخرى بدون ابواب او منافذ تفضي بينهما، وبجدران خارجية سميكة مبنية بالطوف بسمك 50 سم ، وهي خالية  من الابواب والشبابيك او اي منفذ اخر يطل على الخارج وبخاصة من جهة جدرانها الخارجية المطلة على الجانب البعيد للساحة والمواجهة لحافات المستوطن الخارجية ، وضمن تصميم المجمعين فقد بني صفين من الغرف بعرض 4.50 م تخرج عن جانبي البنائين بصفين من الغرف ايضا (4 م) فيما يشبه البرج وسط المجمع هذا. ربما استخدمت مرافقهما لأغراض سكنية([ix]).

إن عدم وجود منافذ خارجية لهذين المجمعين يحمل على الظن بان الدخول اليها كان يتم عبر منافذ خاصة فتحت في سقوفها أو فتحت عند الاقسام العليا من الجدار، وان الصعود اليها كان يتم عبر سلالم خشبية متحركة ترفع عند الحالات الطارئة . وعلى الاغلب فان الغرض من بناء المجمعين بهذه الطريقة انما يعود لتشديد الحماية على ساكنيه او لتوفير حفظ امين للمواد المخزونة فيه ، ومنع الدخول اليه الا من قبل الاشخاص المخولين بذلك ، ومن خلال الساحة المركزية عن طريق عدد محدود من المداخل ، مع الاخذ بنظر الاعتبار ان بناء المجمعين بهذا الامتداد واحاطتهما بالساحة المكشوفة كان يوفر حاجزا لصد الرياح العاتية والباردة التي تهب على هذا المستوطن المكشوف في العراء .

ومهما يكن الغرض من تشييد هذه البنايات ، كأن تكون مخزنا عاما او خاصا او لاغراض معاشية سكنية فان اسلوب تشييدها كان اسلوب عماري مبتكرا ينم عن تنظيم اداري جماعي متقدم ، كما يدل على تطور في الفكر التصميمي والعماري لتخطيط المستوطنات وفي توزيع مرافقها العمارية وفي اشكال وتصاميم العمائر ذات الوظائف التخصصية لتتلاءم مع حاجات المستوطنين ورغباتهم وطرق تفاعلهم مع بيئتهم .

ويبدو أن طريقة بناء (( المباني المتراصة )) المستحكمة هذه قد عرفت بشكلها المحدود هذا في تلك الفترة الزمنية (وهي الفترة الواقعة بين عصر جرمو – حسونة وعصر حسونة ) , اذ عثر على مباني مشيدة  على وفق هذا التصميم في موقع (يارم تبة 1 ) من الالف السادس ق.م .وتقع تلول يارم تبه غرب الموصل جنوب جبل سنجار وعلى بعد 7 كم تقريبا جنوب غرب تلعفر ، اذ عثر في الموقع عند الطبقة الخامسة منه على بقايا بنائية مشيدة وفق تخطيط مضلع ، كانت عبارة عن عدد من المجمعات السكنية بلغ عددها اكثر من 12 مجمعا ، تفصل بينها ازقة ملتوية ضيقة . ومن اهم تلك المجمعات المجمع رقم واحد الذي يقع قرب الزاوية الشمالية الشرقية للمستوطن . المجمع ذو تخطيط بنائي خارجي يشبه ماعثر عليه في موقع ام الدباغية ، وهو يمتد من الشرق الى الغرب ، مفصول عن بقية المنشات العمارية وبخاصة من الجنوب بزقاق عرضه اكثر من 2 م .

يتألف المجمع رقم واحد من أكثر من 14 غرفة صغيرة رصفت بصفين متجاورين بطول بلغ اكثر من 16 م وبعرض 6 م . اما احجام الغرف فكانت 12 غرفة منها بمساحة 2.40×2 م ،أما الغرفتان عند النهاية الشرقية فكانت بمساحة 2×1.5م للمجمع مدخل واحد فقط وهو يفضي الى الغرفة الركنية الجنوبية الغربية([x]). (انظر الشكل 14) إن عدم وجود ابواب او منافذ خارجية لهذا المجمع توحي على أغلب الظن بان الدخول اليها يتم على الاغلب عبر منافذ في السقوف أو عبر منافذ في اعلى الجدار شبيهة بنمط مباني موقع ام الدباغية ، كذلك يبدو ان هذه الطريقة في البناء واستخدام نمط (( المباني المتراصة)) لاغراض تخزينية او لخدمة وظائف عامة او خاصة اضحت متداولة الاستخدام في عصر حسونة ، وربما توضح نتائج التنقيبات في المستقبل عن امثلة اخرى لهذه الابنية في مناطق اخرى من شمال العراق .

تعددت بعد هذه الحقبة الانماط الخاصة باستحكامات (( المباني المتراصة)) واخذت أشكالا وأنماطا أوسع من السابق واكثر دقة وتنظيما . فمن عصر العبيد(الالف الخامس ق.م) ومن موقع تل عبادة الطبقة الثانية منه ، وهو مستوطن زراعي يقع عند الجانب الشرقي لنهر ديالى على بعد 12 كم تقريبا جنوب شرق ناحية السعدية ، يقرب ارتفاعه من 3,50م عن مستوى سطح الارض  انتشر على سطحه عدد من الوحدات البنائية المبنية من اللبن بلغ عددها قرابة 12 وحدة بنائية . يبدو من مخطط توزيع مرافقه أن عددا من الوحدات السكنية التي كانت تحتل الجزء المركزي من التل قد بينت بشكل فريد من نوعه ، اذ بينما كانت جميع الوحدات السكنية الاخرى مفصولة بعضها عن بعض بشوارع وازقة مختلفة الاتساع فان هذه الوحدات المركزية المتكونة من خمس بنايات قد شيدت وهي متجاورة ومتلاصقة مع بعضها، تمتد من الشرق الى الغرب وفق نمط ياخذ شكل امتداد وانحناء حافة التل (شكل 15). ويبدو من اسلوب تراصف الابنية وطريقة بنائها انها قد صممت وفق تخطيط مسبق يهدف الى فصل هذا القسم من المستوطن عن بقية المرافق البنائية الاخرى ، حتى انهم قاموا بغلق المنافذ او الفراغات بين بعض الابنية وخاصة من جهة الغرب ، وذلك بمد جدران الابنية على الجانبين لترتبط فيما بينها ، ولتصبح في  نهاية الامر حاجزا منيعا متصلا بدون انقطاع .

كذلك يبدو أن سكان المستوطن عمدوا الى زيادة دفاعات احدى تلك المباني المتراصة ، وهو المبنى الاكبر والاوسع  مساحة  والذي يضم ثلاث ساحات داخلية، وفيه تم تشييد جدار اضافي سميك احاط بالمبنى على مبعدة من جداره الخارجي بمسافة تقرب من 5 - 7 م ، كذلك  تميزت الجدران الخارجية للمرافق العمارية الاخرى الواقعة الى يساره بسمكها الواضح الذي يعادل ضعف سمك الجدران الداخلية تقريبا . لذلك فمن المحتمل ان يكون هذا البناء المستحكم مبنى سكنيا لعائلة متنفذة في المستوطن([xi])  .

كذلك فان من ضمن مخطط الابنية المتراصة هذه في موقع تل عبادة ، ان مداخلها جميعا تفضي الى مركز المستوطن وليست لها مداخل اخرى من الجهة الأخرى المطلة على المنطقة الممتدة خارج المستوطن ، بحيث شكلت الجدران الخارجية المبنية الواحدة لصق الاخرى - بدون ابواب اوشبابيك – ما يشبه سورا او حاجزا صلدا يحميها من الاخطار الخارجية او حتى لغرض امني داخلي .

أما أكثر نماذج الاستحكامات الدفاعية المشيدة على وفق نمط (( المباني  المتراصة )) تطورا وسعة ، فاننا نجده في موقع  ( تبه كورا  الطبقة 11 أ ) التي ترجع بتاريخها الى عصر الوركاء في الالف الرابع قبل الميلاد(شكل16) . يقع تبه كورا على بعد 22 كم تقريبا شمال شرق الموصل ،وهو بارتفاع يقرب من 22م فوق مستوى الارض ويرجع تاريخ اقدم استيطان فيه الى عصر حلف في الالف الخامس قبل الميلاد. أما الطبقة السكنية مدار بحثنا هذا (11أ)  فهي طبقة  مهمة واسعة تنتشر فيها  بنايات ذات تخطيط مستطيل كبيرة الحجم ، ويحتل المعبد موقعا منعزلا عند الجانب الشرقي منها وتحتل بناية (البيت المدور) موقعا وسطا في المستوطن ، وهذه الطبقة استنادا الى رأي منقبو الموقع ، قد اعتبرت حصنا او قلعة دفاعية كبيرة  اكثر من كونها مركزا دينيا او زراعيا مسالما .

اتبع مستوطنو تبه كورا اسلوب (( المباني المتراصة )) لحماية  التل من الجانب  المتميز بانحداره الطفيف الذي يمكن تسلقه بسهولة ، اي عند الجانب الاضعف استحكاما للموقع . وتؤلف تلك الابنية بمجموعها ما يشبه سورا دفاعيا للموقع تتخله منافذ محصنة تحد وتسيطر على عمليات الدخول والخروج منه .

ففي القاطع الجنوبي الشرقي القريب من حافة التل ، بنيت البيوت السكنية وهي تلاصق بعضها بعضا بدون فراغات او فضاءات بين بيت واخر ، تطل واجهتها نحو الداخل اما جهتها الخارجية فانها تشرف على سفح التل خالية من الابواب والنوافذ لتؤلف كتلة بنائية متسلسلة متراصة تشبه في شكلها ووظيفتها شكل سور دفاعي للموقع([xii])  .

كذلك فقد شيدت المباني عند القاطع الشرقي من المستوطن بنفس اسلوب البناء هذا وقد عمد المستوطنون الى ترك مساحة من الارض مفتوحة بين كتلتين بنائيتين اصبحت فيما بعد بوابة هذا المجمع ، وشكلت المباني على جانبيها ما يشبه الابراج الكبيرة المطلة على مدخل البوابة وعلى الممر الذي يتوسطها . ويبدو من نتائج تنقيبات الطبقات السابقة واللاحقة لهذا الموقع ان هذا المكان بالذات قد استمر استخدامه كممر او بوابة للموقع ، كذلك يظهر من تخطيط الكتلة البنائية على جانبي هذه البوابة عناية كبيرة في تحكيم جدرانها الخارجية وبنائها بسمك اكبر من بقية الجدران ،اضافة لذلك فقد بنى لصقها جدار ثان لزيادة سمكه وتقوية دفاعاته([xiii])  .

أما المدخل الثاني للمستوطن فيقع عند الحافة الجنوبية الشرقية . وهنا ايضا  شيدت جدران المباني المطلة عليه بسمك مبالغ فيه ، كما أن أرضية المدخل هذا قد بلطت بكسر من الحجارة مما يوحي باهميته وكثرة استخدامه ، علما ان منحدر التل امام هذا  المدخل كان سهل الانحدار وقليل الارتفاع وهو افضل مكان للصعود والنزول من الموقع ، الا أنه مع افضليته هذه فقد اصبح ضعيفا من الناحية الدفاعية حيث يسهل الارتقاء اليه والتوغل الى المستوطن  لذلك كانت هذه الابنية المتراصة المشيدة في هذا القسم بالذات والمداخل المنيعة التي تتخللها افضل وسيلة دفاعية يمكن اتخاذها في الموقع([xiv])  .

  

هوامش البحث :

([1]) الاعظمي , محمد طه            الاسوار والتحصينات الدفاعية  في العمارة العراقية القديمة       رسالة دكتوراه غير منشورة كلية الاداب _ جامعة بغداد ,  1992  ,ص 60

([2])Sigrist,M.  and  Gomi,T.  The Comprehensive Catalogue of  Published Ur ш Tablets,    U.S.A  ,             1991  ,P.324          

([3])Ibid.  P. 325

([4])   باقر, طه      مقدمة في تاريخ الحضارات القديمة       بغداد,  1986,   ص 419  ,591

([5])- Unger,E.            ((Arbailu)),  RLA 1,            Leipzig   , 1928-1932,      P P.141-142

Novacek,K.               ((Research of Arbil Citadel, Iraqikurdistan,First Season))             PamatkyArcheologick,  vol.XCIX, 2008,       P.260

ساكز ,هاري            عظمة بابل      ,  ترجمة عامر سليمان   ,        الموصل , 1979     , ص154  

عواد , كوركيس           (( نبذة تاريخية في اصول اسماء الامكنة  العراقية )) , مجلة سومر ,1952, ص250

([6])  Novacek,K.           Op.Cit.      P.262 

([7])  Mellaart,J.             GatalHuyuk   A Neolithic Town in Anatolia,        London ,1967, P.53,68

([8])  Mellaart,J  Earliest Civilizations of the Near East ,                   London , 1965,  P. 82

([9])  Kirkbride, D.           ((Umm Dabaghiya))   , IRAQ ,vol.34,  1973,      PP.206 - 207

([10]) Merpert,N. and  Munchaev,R.M.                (( Excavations at  YarimTepe  First Priliminary Report  )) , SUMER,vol. 25. 1969 ,   P. 126 -127

Merpert,N.  andMunchaev, R.M.                   ((Early Agricultural Settlements in the SingarPlain,Northen Iraq)) ,                          IRAQ,vol.35,  1973,    PP.97-98

([11]) Jasim,S.A.                    (( Excavations of Tell Abada, A Preliminary Report )) ,IRAQ , vol.45,1983, P.173

Roaf,M.                      (( Ubaid Houses and Temples )) SUMER,vol.43, 1984, PP.86-87

([12]) Tobler,A.           Excavations at TepeGawra,            vol.2,    U.S.A, 1950,     P.18,451

([13])  Ibid.                   P.18                                                                             

 ([14])  Ibid.                   P.19

 

الأشكال

1 2 6

   شكل ( 1)  لوحة لقلعة اربيل في القرن الثامن عشر

 

2 2 6

شكل (2) صورة جوية لقلعة اربيل

 

3 2 6

شكل (3) الجدران الخارجية والدعامات الساندة لها

 

4 2 6

شكل (4) منظور من الاعلى قرب البوابة الشمالية .يلاحظ شدة انحدار سفح التل

 

5 2 6

شكل (5) زقاق داخل القلعة

 

6 2 6

شكل ( 6) يلاحظ طريقة البناء برصف البيوت الواحدة لصق الاخرى دون وجود اي فضاءات بينهما

 

7 2 6

شكل ( 7) جانب من الواجهة الخارجية لمبنى القلعة، يلاحظ سمك الجدران الخارجية ، وشدة انحدار التل 

 

8 2 6

شكل ( 8) البوابة الجنوبية بعد الصيانة

 

9 2 6

شكل (9) صورة جوية  للبوابة الجنوبية والقسم الجنوبي من القلعة

 

10 2 6

شكل (10) صورة جوية للقسم الجنوبي الغربي

 

11 2 6

شكل (11) صورة جوية للقسم الشمالي الشرقي

 

12 2 6

شكل ( 12) موقع جطل هويوك

 

13 2 6

شكل (13) موقع أم الدباغية

 

14 2 6

شكل (14) موقع يارم تبه 1

 

15 2 6

شكل (15) موقع تل عباده

 

16 2 6

شكل (16) موقع تبه كورا