التراجـــع  الديمغرافـــــي  خلال الفترة الكولونيالية بالجزائر

(المنطقة الممتدة من   سهول  مينا والضفة اليسرى لشلف)

فيما بين  1863-1900

 

    د. ليلى، بلقاسم

المركز الجامعي غليـــزان

 

La régression démographique pendant la période coloniale en Algérie (la zone s'étendant des plaines de la  Mina et de la rive gauche du Chlef) entre 1863-1900:

The demographic regression during the colonial period in Algeria (the area extending from the plains of Mina and the left bank of Chlef) between 1863-1900:

 


     مست السياسة الكولونيالية_ الفرنسية  التركيبة الاجتماعية والاقتصادية  للفرد الجزائري جراء أساليب التفقير والقهر والمصادرات، فأفرزت نظاما يقصي الأهلي تضاعفت على حسابه ميزانية الميتروبول بما فيها  جيوب الكولون،  كنتيجة لتحطيم الإنسان الجزائري وإحلال الأوروبي مكانه باستنزاف خيرات البلاد الجوفية  والسطحية  باقتلاع الجزائري من أرضه  ونسقه الاجتماعي وكانت منطقتي مينا والضفة اليسرى لشلف كعينة لما وقع في الجزائر خلال المرحلة الكولونالية الممتدة من 1863 إلى 1900 المرحلة التي تميزت بتطبيقات القوانين العقارية  واستهداف الأرض والقبيلة.

  فما هي عوامل   التراجع الديمغرافي   بالمنطقة؟  وماهي انعكاسات ذلك على التركيبة  السكانية والاقتصادية؟

       صرح لاموريسيار قائلا : " على المنتصر تطبيق قانون الغالب، فالعرب الذين حُطِّموا عسكريا يجب أن يُحَطَموا اقتصاديا،  وهم مجبرين طوعا أو كرها على ترك أراضيهم للمستوطنين.[1]"

         أدت السياسة الكولونيالية الفرنسية  إلى إحداث خلل  في الخريطة الديمغرافية في المنطقة المدروسة كعينة لما حصل في الجـــزائر، ممّا خلق حالة من لا  استقرار الاجتماعي والسكاني،  في مقدمته سياسة الإبادة والتهجير والتقتيل التي تخللت الانتفاضات الشعبية، فخلال انتفاضة فليتا 1864 والتي  مست بلاد بني وراغ وبني مسلم وكل المنطقـــة، مما اضطر السلطة الاستعمارية إلى إخمادها وفق سياسة الأرض المحروقة وهذا ما ورد على لسان لاباســـي(Lapasset ) :" من جوان 1864 كان التالي: 02 جوان تمَّ حرق أراضي أولاد صابر وأولاد ايعيش وأولاد خويدم، في 03 جوان ضربت كل قبائل عمي موسى وفي 04 جوان اخترق منحدر رهيـــو من طرف طابور  لاباسي وروز وأحرقت قرى مكناسة.[2]"  وعقب نهاية  الانتفاضة صودرت آلالاف  الهكتارات وتمَّ نفــــي 300 ثائر إلى جزيرة كورتي وكورسيكا وكاليدونيا الجديدة، زادها حجم الضرائب والغرامات المالية المفروضة على الجزائريين،  بلغت في قسمة   مستغانم خلال أشهر أوت 1865 و  جانفي 1866 و سبتمبر 1866 ما قيمته 1.227.696 فرنك و 80 سنتيم[3] من مجموع الضرائب التي ارتفعت خلال شهر أكتوبر 1866 إلى 6.482.544 فرنك و 85 سنتيم كغرامات حرب[4]، وهذا  ما رصدناه من خلال الوثائق الأرشيفية إضافة إلى استمرار ضريبتي الزكاة و العشور في أوساط القبائل المتضررة  لتصنف المنطقة ضمن الأقاليم الأَكثر بؤسا.  المبالغ التي حوّلت لدعم المشاريع الاستيطانية  بما يخدم الكولون منها الهياكل القاعدية في عمي موســـى وغليزان وزمورة يلـــل ذات بعد عسكري دفاعي   بلغت قيمتها 2.458 فرنك و 42 سنتيم[5].

         كما قادت السياسة الكولونياليــة إلى ارتفاع معدل الوفيات في أوساط قبائل المنطقة الأمر الذي أدى إلى تهديد الوضع الديمغرافي،  كنتيجة لعمليات إفقار الفرد الجزائري، ففي مواطن فليتا والظهرة والونشريس: " تراوح التناقص ما بين 30 إلى 60 % في مجال مينا وأولاد بوعفان 65.7 % وأولاد بوعلي والونشريس وحول غليـــزان 62.4 % وفي بني زنطيس على سفوح الظهرة 58.5 % وبأولاد يايا بجبال زمـــورة لم يبق سنة 1869 إلاَّ 791 فردا من مجمل 2.460 فردا الذين شملهم إحصاء سنة 1866 ما يمثل خسارة بـ 67.8%"[6]. مما أدى إلى زوال قبائل بهدف كسر المقاومة ضد السلطة الاستعمارية، بل إلى افراغ المناطق من الساكنة جراء عمليات الإبادة والحرق والعقوبات الجماعية فكنتيجة لانتفاضة 1864 غادرت 341 خيمة مواطن فليتا تاركة أراضيها ولجأت إلى قسمة معسكر فرارا من أعمال القمع[7].

 والجدول التالي يوضح حالة التقهقر السُّكاني في بعض القبائل ومنها قبيلة أَولاد العباس 1867-1897:

السنوات

القبيلة

الدواوير الأهلية

السكان

(نسمة)

المساحة الإقليمية

ملاحظات

1867

أولاد العباس

-قرواو

-أهل قرين

-واريزان

6.462

17.018هكـ

اقتطع 4.153 هكـ لخلق عين كرمان – وادرهيو دوار واريزان ألحق خلال هذه الفترة في جزء منه بلدية عين كرمان وجزء منه بالبلدية المختلطة سيدي أمحمد بن علي (Renault)

1897

5.333  نسمة

12.865 هكـ

 

Source :Lecq,M, H, Commission d’étude  des améliorations à apporter dans la situation agricole de la Vallée du Cheliff, Rapport à Monsieur le gouverneur général de l’Algerie, Alger, Imprimerie orientale, 1898, PP :122-123.

        ما يلاحظ من خلال  الجدول حالة  التناقص الديمغرافي في العرش في مدة 30 سنة بمعدل 1.119 فرد وهذا كنتيجة لسياسة التفقير بسبب سلب العقار و اقتطاعهِ لصالح إنشاء المراكز الاستيطانية و توسيعها، إضافة  إلى حجم الضرائب الباهظة التي بلغت في العرش ما  قيمته 29.163 فرنك سنة 1867  في حين بلغت سنة 1897 م  ما قيمته 34.840 فرنك كان يوجه أغلبها لدعم المشاريع الاستيطانية لصالح الكولون.

  وبمأنَّ جلَّ القبائل الممتدة ما بين  منخفض مينا والضفة اليسرى لشلف ما بين 1866-1870،   خضعت لتطبيقات القرار المشيخي (Sénatus-Consult) 1863م، الذي أدّى إلى تحطيم التركيبة الاجتماعية للمجتمع المَحلي بالمنطقة لتصنف ضمن المناطق الأكثر تضرراَ حيث سجلت 1.383 ضحية في الفترة الاستعمارية بالخصوص في المناطق النائية الجبلية ما بين وادي مينا ووادرهيو بالخصوص التي شملتها انتفاضة  1864 [8]."

   في حين انعكست السياسة الكولونيالية  بالجزائر بالإيجاب على المستوطنين الأوروبيين و  بالسلب على العنصر المحلي الجزائري، أمام تقلص نصيب الفرد الجزائري من الحبوب والمساحات الزراعية على حساب توسع زراعة الكروم والمحاصيل الصناعية الموجهة لخدمة الاقتصاد الكولونيالي الرأسمالي.  فبينما ظلت  مساحات الجزائريين تعرف انكماشاَ بفعل القوانين العقارية الجائرة  ظلت   مساحات المستوطنين الأوروبيين تعرف توسعا ، ضف إلى  ذلك الدعم المالي المصحوب لهذه الفئة الدخيلة التي ازدادت ثراء . إذ   انتهجت السياسة الكولونيالية  عمليات  الإفقار والإهمال اتجاه السكان الجزائريينَ بداية  بالتشريعات العقارية وبالتحديد قانون فارني(Warnier) 1873 م الذي  أباح التسويق في الأراضي الجزائرية  ما شجع المعاملات الربوية وفرض الضرائب الثقيلة العينية والنقدية والرهنية،   التي أنهكت جيوب الجزائريين وحولتهم إلى خماسين وبروليتاريا كادحة في المدن الهامشية كحي الزنوج أو القرابة* بغليزان، لتظهر فئة الفلاحين  من غير أراضٍ وفلاح بدون عمل مسخر كأجير لخدمة الكولون والأرستقراطية  والبرجوازية الجزائرية وهذا ما نقرأه في تقرير سبتمبر 1866 :" الأَهالي ومن أجل  البحث عن وسائل معيشية أُخرى  و لتخفيف مأساتهم جراء المحاصيل الضعيفة  لسنة 1866، ومن بينها تلك القبائل المجاورة لمراكزنا الاستيطانية فالبعض شكلوا أيادي مساعدة للمزارعينَ الأُوروبيينَ والآخرونَ ذهبوا ليطالبوا بالعمل في ورشات السكة الحديدية… السكان العرب خلقوا موارد ذات قيمة وأصبحوا في نفس الوقت بالنسبة للكولون كما للمقاولينَ وسيلة بالغة المساعدة للأشغال الاستيطانية الكبرىْ[9]." ومع ذلك استمر تحصيل ضريبة العشور إلى مصلحة  الضرائب (Service de contribution) - كما اوضحنا أعلاه- دون مراعاة الظروف الاقتصادية والاجتماعية والطبيعية للجزائريين. إلى الكوارث الطبيعية على رأسها الجفاف  سنة 1865م صاحبه الجراد 1866م.

      إنَّ الفقـــر الذي أصاب العنصر المحلي بالمنطقة المدروسة كعينة عن الجزائر  يرجع إلى الأسباب التالية :

  • الابتلاع المتزايد للأراضي الجزائريين الفلاحية الخصبة والرعوية مما أثــر على الأوضاع الاقتصادية بالخصوص الزراعية و على الظروف المعيشية للجزائريين جراء افراغ المطامير من مخزونها، التي كان يحتاطُ بها الجزائري في أوقات الفاقة والكوارث الطبيعية والتغيرات المناخية. وفي المقابل  احتياطـــي المستوطنين من الحبوب لم ينقص منه شيء وبالرغم من ذلك لم يخطر ببال أحد الرسميينَ أو من الخواصْ أن قدم  يد المساعدة للجائعين[10]. في ظل  سياسة فرنسة الأراضي وجمع الجزائريينَ وحصرهم (Cantonnement) في مناطق محددة لا تتناسب وعددهم ولا احتياجاتهم  مما أدى الى تقلص مواردهم الزراعية والرعوية .
  • الفــــــــــاقات والمجاعات التي ضربت المجتمع المحلي بالمنطقة و  التي ترسخت في ذاكرة الجزائري بالتأريخ لها بأعوام هذه الكوارث بعام الجوع وعام الشر (1867-1868) وعام الجراد (1866) الذي ترتب عنه إصابات بالتسمم في المياه مما ساعد على انتشار الأوبئة والأمراض كالتيفوس والكوليرا لم تسلم منه حتى الحيوانات،     وهذا ما نقرأُه في تقرير ماي 1866م " جفاف طويل والسبب الأوَّل لهذه الحالة غزو الجراد، قبائل آغاليك الظهرة الأَكثر عناء من هذه الكارثة، خسرت الحبوب التي تكبدوها لقد رأوا أشجارهم الجميلة من التين  قد دمرتْ تماماَ كارثة كبيرة ضربت مواردهم في كل  المناطق،إنَّ الاستياء عميقْ[11]".  وخلال شهر جوان لنفس السنة (1866) ورد التالي : " الأهالي مستاءون  يقضون جلَّ وقتهم في الفتك بالجراد الذي تسبب في الكثير  من الضـــرر، هذه السنة ستكون أكثر سوءا ، الحبوب في تناقص محاصيل السنة الأخيرة الآمال فيها ضعيفة و كذلكَ محاصيل أشجار التين لمعظم قبائل القسمة ... المأساة بدأت وتمّ استشعارها في عدة نقاط  مما سيشكلُ تهديدا حقيقيا[12]."

    من الأمثلة على ذلك قبيلة أولاد رافع  باقليم زمــــورة تذكر التقارير أنَّها عانت كثيرا من أزمة 1866-1868 بحيث فقدت سُدس سكانها  جراء المجاعات والأوبئة إذ نقص عدد السكان إلى 384 فرد إلى جانب خسائر في الثروة الحيوانية بشكل عظيم،  أصبحت القبيلة لا تشمل إلاَّ 11 حصان و 6 بغال و 12 حمار و 65 بغل و 1.027 خروف و 574 من الماعز،   وقدرت  الضريبة خلال 10 سنوات الأخيرة بـ 5.191 فرنك و 68 سنتيم  نفس المتوسط بلغ في السنوات الثلاث الأخيرة  وُجد  منخفضا بـ  769 فرنك و 80 سنتيم[13] .  ومن الأَمثلة على ذلك أيضا قبيلة أولاد راشد كما باقي قبائل فليتا عانت بقوة من أزمة 1867م ،   فخلال سنة واحدة و مقارنة بالوضعية الإحصائية لسنتي 1867-1868 يظهر الانخفاض جليا بحيث فقدى ثلث سكانها[14]. ومن أكثر القبائل بؤسا قبيلة أولاد بلحي فمن خلال الأرقام التي تركها المكتب العربـــي فقدت من 1867 م  إلى 1868 م  حوالي 1.176 فرد و 253 حصان و 1.271 من الثيران و 13.705 من الخرفان والماعز[15] ما يعني هلاك  ثرواتها  وإمكانياتها المادية والبشرية،  القبيلة التي كان طرفا مهما في انتفاضة  سيدي لرزق بلحاج(فليتا ) 1864م.

  • انعكاسات الانتفاضات و  المقاومات جراء افراغ الساكنة  من الأراضي كنتيجة للقمع  و الغرامات  الحربية التي انهكت الأهالي فقبيلة  فليتـــــــــا فرضت عليها الغرامات  التي انهكتها بالكامل جراء انتفاضة  1864م وفي شهر أوت 1865م،  حوالي 99 سجين أُرسل الى مستغانم و 100 سجين آخر وضعوا في زمورة،  وفي شهر شهر نوفمبر 1865م 341 خيمة من فليتا فرّت  من البلاد،  ولجأ أغلبها إلى قسمة معسكر يذكر التقرير أنّ فليتا جراء ذلك لم يكن لها  الوقت الكاف لإعادة  ترميم ما أصابها  من جديد بالخصوص  ما لحقها من مجاعة 1867م التي أغرقتهم مرة أخرى في البؤس[16].
  • انتشار الأمراض والأوبئة التي أهلكت المجتمع المحلي و منها  داء الكوليرا والطاعون وغيرها من الأَمراض الفتاكة.   يذكر تقرير ديسمبر 1863م: " أنّ وباء حمى متقطع ومعقد الملاريا الدماغية (L’accès pernicieux ) تمّ ظهوره بتاريخ 08 ديسمبر 1863 بقبائل مديونة و مازونة... وأدى إلى وفيات كبيرة،  وبتاريخ 16 ديسمبر  سجلناَ في قبيلتين 58 حالة وفاة خلال غزو المرض، السيد فيدال(Vidal )  موظف من الدرجة الأولى هذا الطبيب حاليا متواجد بمازونة مع الأَدوية وفي هذا المكان ساح في القبائل المتضررة من هذا الوباء وعمل ما في  وسعهِ لإنقاذ الأهالي[17]." كما يشير تقرير  أوت 1865م : " أنَّ الوضعية الصحية لا ترقى إلى المستوى المطلوب فالعديد من  القبائل انتشرت فيها الحمى بالخصوص تلك المجاورة للمستنقعات[18]".  ويضيف تقرير أكتوبر 1865م :" أنّ الوضعية الصِحيَّة تركت نُقصا، الحمى المتواترة متواصلة في الحاق  الضرر فقد مست العديد من أجزاء مستغانم،  نسب الوفيات  كبيرة جداَ في هذه الظروف،  الإدارة تدخلت للمساعدة في حدود إمكانياتهاَ للأهالي الطبيب المكلف بمصلحة الصحة بالمكتب العربي حرصَ على صحة القبائل التي تضررت، بتوزيع حبوب الكانين Des pilules de quinine  التي تمت بشكل واسع وبالشكل المُمكن، وبفضل هذه الرعاية وهذه النجدات للعديد من الأَهالي تمّ   إنقاذهم من الوباء الذي أصبح في طريقه إلى الزوال".[19]
  •  المَديونية والقروض الربوية إذ يشير تقرير شهر أكتوبر 1866م " أنّ موسم الحرث قد بدأ مع أواخر 15 من شهر  أكتوبر وقد وجد الأهالي أنفسهم في مأزق الحرثْ الذي شمل نطاقا ضيقاً، فالأهالي ليس لهم حبوب البذر والحصول عليها يستوجب عليهم تغطيتهاَ بالقروض الربوية بشروط مدمرة ففضل الكثير منهم عدم الحرث هروبا من هذه الأصناف من الديون[20]."
  • عامل الجفاف الذي استمر لفترة طويلة والذي حال حسب تقرير شهر ديسمبر 1866 دون توسع عملية الحرث بالمنطقة مما آثار مخاوف الأهالي إذ لم تتهـــاطل الأَمطار سنة 1867م،  ستكون سنة فاجعة كما كانت سنة 1866م [21]."  وهذا ما انعكس على الانتــاج الفلاحي وأدَّى إلى تناقص في انتاح الحبوب بكافة أنواعها وقد أشار تقرير جويلية 1866م "أن القمح والشعير يجلب إلى الأسواق بكميات قليلة جدا، ما أدى إلى ارتفاع ثمنهِ خارج نسب المواردْ[22]." وتشير الوثائق الأرشيفية  أنّ سوء الظروف أدى إلى تدهور الأوضاع السياسية بالمنطقة جراء دمَار الحملة الفلاحية  فقبائل المنطقة لا يمكنها الاعتماد على إنتاج مصادر أخرى كالمواشي مما تسبب في انتشار الأَمراض بسبب الجفاف الذي عصف بالبلاد[23]".

      ورد في مراسلة بتاريخ 07 جوان 1877م تخص ملحقة زمـــورة أنّ  انتاج الحبوب رديء وأنَّ البذر تم ّ في وقت مبكر وبسبب الجفاف لم ينتج شيئا ... ففي قبائل أولاد سويد والعناترة  وفي الدواوير الأهلية (أولاد زيد قبيلة أولاد يحي) وبن عودة واد حامول ( لمحال) لا يوجد على الإطلاق شيء لا انتاج ولا رعي... وفي قبائل الحرارثة وبني درقن وأولاد سيدي أحمد بن محمد وأولاد بلحي وأولاد سيدي لزرق وأولاد سيدي يحيى بن محمد وأولاد سيدي يحيى وأولاد رافع،  المحصول ناقص  وفي عدد من الدواوير  المردودية ستكون بنصف المحصول وفي القبائل الأُخرى من جيد إلى سيءْ[24].

مما جعل المحصول مفقودا في 05 قبائل أو دواوير أهلية وفي القبائل الثمانية الأُخرى نصف المحصول،  إذ أثبتت  المعلومات التي قدمها الزعماء الأهالي أن 10 قبائل بالملحقة لا يمكنها التزود بالحبوب في السنوات القادمة ، فعلى  على سبيل المثال أشار التقرير أنَّ قبيلة أولاد راشد لا تحوز الامدادات  الخاصة الكافية للبذر لبلوغ نهاية الشتاء. مما اضطر أهالي فليتا إلى بيع بعض مواشيهم لكي يتمكنوا من دفع ضريبة الزكاة التي يجب دفعها في الشهر الجاري من جوان 1877م، الأمر  الذي  دفع الزعماء الأهالي ووفق تعليمات الإدارة الكولونيالية إلى مساعدة  الجزائريين المتضريين،  و بأنّ الماشية لا قيمة لها في الأَسواق وأنَّه من الأفضل الحفاظ عليها لأكبر  وقت ممكن. وأشار التقرير إلى أنّ الأهالي رؤوا   أنّه إذا  جاءت أمطار الخريف  في وقتها بوفرة فإِن الأَزمة  سيتم تجاوزها ولا تترك أثرا، في حين إذا حدث العكس وسقطت الأمطار متأخرة وبكميات قليلة فإن الوضعية تصبح أكثر انتقادا[25]. ما يعني أنّ الأهالي الجزائريين كانوا يعتمدون في  عمليات السقي على ما تذره السماء من أمطار على غرار الأوروبـــي الذي دعم بشبكة ضخمة من الموارد المائية من خلال السدود ومدها بقنوات المياه التي تمّ تشييدها  تحت ضغط شكاوي الكولون لري ملكياتهم الزراعية الواسعة على حساب تحويل المجاري المائية بما يخدم زراعتهم وهذا ما نقرأه في شكوى المعمر قورنـــاي (Gourany) بغليزان في رسالة موجهة إلى الحاكم العام بتاريخ 19-08-1862 حول نقص المياه بمحيط مينا من حيث التوزيع،  والذي تعود أسبابه حسب الرسالة إلى إفراط الأهالي في استخدام المياه في الجزء الأعلى من واد مينا، وإلى استغلالهِ من طرف آهالي المنطقة المجاورة لمزرعتهِ ممّا أدى إلى تناقصهِ وتوقفهِ في الجزء الأسفل[26].

        علما أنَّ الادارة الكولونيالية أخضعت في هذه السنة قبائل ملحقة زمورة  إلى ضريبة الزكاة بحيث تم إحصاء 2.007 من الثيران و 17.477 من الخرفان و 2.709 من  الماعز في حين احتوت مطامير التخزين للجماعة ما قيمته 7.230 هيكتولتير و 80 لتر.   وأشار التقرير أن الوضعية الأخيرة تدل على أنَّ هذا الرقم ليس متنوع وأنه ستقدم دفعات للقبائل التي تفتقر للبذور الحرث وقروض بضمانات تقدم للفلاحين لسد حاجياتهم [27].

   أمَّا في دائرة عمي موسى فقد تقرر أنَّ احتياطي الامدادات  (approvisionnement)   للأفراد  متوفر بجدية لدى  الخيم الجيدة فقط  (les bonnes tentes ) في حين  منعدم بالنسبة للخماسين والفلاحين،   وأشار أَيضا أنًّ ظروفهم ستكون لسنة أو سنتان على الأًقل أكثر صعوبة وعدم الاستقرار خلال السنوات الست والثمانية الأخيرة  من عام 1877م وأمام السعر المرتفع للحبوب  والمغري أَشار إلى أنَّ  ذلكَ من شأنهِ أَن يدفع   بعض الفلاحين الأَغنياء  إلى بيعِ  جزء من احتياطاتهم [28]. في حين أَبدى تقرير حول  عين كرمان (وادرهيو)   بتاريخ 27 أفريل 1878م أنّ وضعية الآهالي غير مطمئنة على نقيض ما أعلنه  الاداري،  ذلك أنَّ المحاصيل مُنعدمة في 03 دواوير جزئية،  يعادل ¼ من المحصول في 07 أخرى، و ½ في 21 دوار و جيدة في 07 دواوير،  الأمر الذي دفع الادارة الكولونيالية إلى العمل على اتخاذ إجراءات احتياطية فيما يتعلق بالدواوير الثلاث أين المحصول بالكامل منعدم وفي  07 دواوير الأهلية حيث لديها ربع المحصول[29].

  • الضرائب الثقيلة والمجحفة في حق الجزائريين الأهالي والجدول التالي يبين قيمة الضرائب التي فرضت على قبائل المنطقة:

1897

1867

القبيلة

34.840 فرنك

 29.163 فرنك

أولاد العباس

 17.030 فرنك

11.950  فرنك

أولاد أحمد

29.824 فرنك

22.904 فرنك

عكرمة الشراقة

26.268 فرنك

 14.404 فرنك

المحال

7.584 فرنك

 9.217 فرنك

أولاد سلامة

19.049 فرنك

30.214 فرنك

أولاد خويدم

13.465 فرنك

15.783 فرنك

اولاد سيدي بوعبد الله

 

Source- Lecq. M.H, Commission d’Etude des améliorations à apporter dans la Situation Agricole de la vallée du Chéliff, Rapport à Monsieur le Gouverneur Général de l’Algérie, Alger, Imprimerie Orientale, 1898.pp, 122,123.

        فمن خلال قراءة الجدول الاحصائي  يتبين لنا ارتفاع قيمة الضرائب ما بين سنتي 1867 و 1897 ويدخل هذا ضمن سياسة إفراغ جيــــوب،   بهدف تدمير البنى الاجتماعية والاقتصادية وإزاحة السكان بكل  الأساليب عن السهول والمناطق الزراعية فالإضافة إلى ذلك كان للوجهاء نصيب منها   من القياد والآغاوات مقابل 10 بالمائة من الضرائب المحصل عليها ، إلى جانب الاستفادة من أَعمال السخرة  والتويزة في أراضيهم ونقل منتجاتهم  مما مكّن  القيادات المحلية  من تجميع ثروات نقدية كبيرة[30].

الجدول التالي يَعرض وَضعية المحَاصيل في اقليم البلدية المختلطة وادرهيو (Inkermann) 24 أفريل 1878:

أسما الدواوير

اسماء المشاتي

وضعية المحصول

القيايبة

Kiaiba

-         القصارة.

-         العجاونية

-         العواشيش

-         أولاد سلطان

-         أولاد  خنار

-         منعدم نهائيا

-         نفسه

-         نفسه

-         ¼ من المحصول

-         نفسه

أولاد عدي

Ouled Addi

-         المعايزية

-         السوايمية

-         قدايشية

-         الشراطنية

-         زارة

-         مخاطرية

-         مفاتحية

-         ½ من المحصول

-         نفسه

-         نفسه

-         محصول جيد

-         محصول سيء

-         ½ من المحصول

-         نفسه

الجرارة

Djerara

-         الطراميل

-         حساين الجرارة

-         ماجن بن طاهر

-         أولاد عابد

-         العوايشية

-         أولاد شنة

-         ½ من المحصول

-         نفسه

-         نفسه

-         نفسه

-         نفسه

-         نفسه

الحمادنة

Hamadena

-         مشتة خدام سيدي علي

-         حساين البرايجية

-         السوالم

-         الشكايرية

-         أولاد بن والي

-         ¼ من المحصول

-         ½ من المحصول منعدم في الجبال

-         ¾ من المحصول

-         محصول جيد في السهول وسيء في الجبال.

-         ½ من المحصول.

عبد القوي

Abd El Goui

-         أولاد المداح

-         الزناينية

-         أولاد بن عودة

-         مجايدية

-         دوار أولاد عابد

-         الرتايمية

-         العواينية

-         عبد الدايم

-         أولاد بوجلة

-         ¼ من المحصول

-         نفسه

-         محصول جيد.

-         محصول جيد

-         محصول جيد

-         ½ من المحصول

-         نفسه

-         نفسه

-         ¼ من المحصول.

مرجة قرقر

Merjat El Gargar.

-         السلاطنة

-         سيدي عابد ولد الحاج احمد

-         الخنايق

-         الغرايب

-         جديات

-         دراهمية

-         ½ من المحصول

-         نفسه

-         نفسه

-         ¼ من المحصول

-         محصول جيد

-         محصول جيد.

 

Source : A.N.O.M, 14H37, Famine 1868, état présentant la situation des récoltes à la date du 24 avril 1878,dans le territoire de la commune mixte d’Inkermann,  l’administrateur signé, Guérin.

 

تراجع الأنشطة الاقتصادية التقليدية كالحرف والنشاط التجاري في بعض الحواضر

إذ يسجل الجيلالي صاري :" تزايد النمو السريع للهجرة سنة 1896م في منطقة مازونة كنتيجة لتراجع الحرف والنزوح إلى الأحياء الهامشية[31]".  وهو العرش الذي اقتطعت منه 2.700 هكـ لتأسيس المركز الاستيطاني سيدي أمحمد بن علي (Renault)، وخلال تطبيق قانون فارني 1873م  تسبب ذلك في عزل المدينة اقتصاديا جراء محاصرتها بالمراكز الاستيطانية وإبعادها عن شبكة المواصلات فمنعت التجارة والحرف رغم إرادة تجارها ومثابرة حرفييها في ظل الانحطاط القاتل[32]. مما تسبب في الهجرة  الداخلية إلى المناطق الأخرى إلى سهل الشلف وغليزان ومستغانم[33].

  • اختراق النظام الاقتصادي الرأسمالي للسوق للاقتصادي التقليدي الجزائري، إذ كان النظام السائد قبل الوجود الاستعماري قائم على تخزين الحبوب في المطامير لمواجهة التغييرات المناخية والاضطرابات السياسية التي قد تهدد وجود الفرد والقبيلة، مما يضمن الاكتفاء الذاتي غير أن  افراغ مطامير بني وراغ وأولاد صابر والقبائل المحيطة بالمطمر (Les Silos) نتيجة المضاربات الربوية والدخول في الاقتصاد النقدي داخل القبائل مما أَجبرهم على بيع احتياطاتهم التقليدية مما يتسبب في حالة المحصول السيء وضعاَ متزعزعا عند شراء ما ينقصهم من الحبوب ونلاحظ هنا يذكر بن آشنهو أنّ أية ظاهرة ستكون ذات اتساع كبير في سنوات المحصول السيءْ[34].  الأمر الذي أدى بالفلاح الجزائري إلى عجزه عن مواكبة التغيرات في ظل تحول الأرض إلى مجرد سلعة تجارية :" فقد قاد الفلاح الجزائري إلى مواجهة كل الضغوطات من دون سند خارجي، ويختفي الاحتياطي الجماعي من الحبوب ويخضع الفلاح صاحب القطعة المجزأة إلى التغييرات المناخية وبالتالي يتعرض للربا وانتزاع الملكية منه[35].

      و كنتيجة لسياسة التفقير (La politique d'appauvrissement) التي أدت إلى التقهقر الديمغرافي وتغير الخريطة السكانية  وزوال قبائل بأكملها،  وكنتيجة للفاقات ومعارك البطون الجائعة  بالمنطقة يذكر تقرير ديسمبر 1866م : " أنّه بسبب المأساة الكبيرة التي اجتاحت  البلاد، انتشرت السرقات بشكل كبير ومن ذلك أنّه في ليلة 04 إلى 08 ديسمبر 1866 حدثت سرقات شملت 140 مقياس شعير لصاحبها الجيلالي قدور من قبيلة عكرمة الغرابة تمّ إفراغها كلها[36]."  كما توالت عمليات السطو على المطامير المملوكة للقياد والكولون على حد سواء لإشباع البطون ففي جلسة 17 ديسمبر 1866 أعلنت اللجنة التأديبية (La commission disciplinaire) أنّ بن عودة بن دالي  من العناترة ومحمد بن عمار والحاج ولد محمد بن عمار من أولاد يحي متهمين بسرقة مطامير الشعير، وقد تمت معاقبتهم بـ 06 أشهر بالنسبة للإثنان الأولين والثالث بـ 08 أشهر بالسجن العقابي ببوخنافيس (بسيدي بلعباس)  وتم فرض  60 فرنك كتعويض  للأضرار لأحمد ولد سيدي محمد بن بركات[37].  ومن خلال قراءة الجلسات التأديبية لقسمة مستغانم  التي أعدت للجزائريين أنَّ أغلب القضايا متعلقة خلال هذه الفترة بالسرقات التي خصت الحبوب والمواشي ففي جلسة  بتاريخ 07 إلى 17 ديسمبر 1866م أعلنت عن الأحكام التالية:

*-صيهوب ولد الحاج قدور بن سيدي علي وعابد ولد الغول وعابد ولد سيدي غلام الله من أولاد سيدي بوعبد الله اعترفوا بذنب سرقة الشعير وعوقبوا بسجن 06 أشهر بالمؤسسة العقابية ببوخنافيس مع دفع غرامة مالية بـ 60 فرنك كأضرار لسي طاهر ولد حاج عابد من نفس القبيلة.

*-المليود بوعزة وقدور بن خيرة وعبد الله بن غالي من عكرمة الغرابة اعترفوا بالإجماع  بسرقة اثنان من الأبقار عوقبوا الاثنان الأوَّلان  بسنة سجن  والأخير بـ 03 أشهر سجن في المؤسسة العقابية ببوخنافيس ودفع غرامة مالية قدرت بـ 100 فرنك كأضرار لسي أحمد بن عبدة من نفس القبيلة .

*-أحمد بلعربي من أولاد إسمر وبوعبد الله بلعربي اعترفوا بالإجماع  على سرقة 10 خرفان عوقبوا بـ 06 أشهر من السجن بالمؤسسة العقابية ببوخنافيس، كما اقترح التعويض المالي بـ 80 فرنك تعويضا عن الأضرار لمحمد بلحاج من أولاد إسمر[38].

 

الخاتمة:

         إنّ الوقائع التاريخية المستقاة من وثائق وكتابات الفرنسيين أنفسهم أشارت إلى الإنجازات التي أقيمت هنا وهناك واصفين إياها بالفعل الحضاري، غير أنّ الواقع يقول بنقيض ذلك فلقد شهد المجتمع المحلي بالمنطقة المدروسة جراء التواجد الهمجي  للقوات الاستعمارية منذ البداية تغيرات سلبية جـــذرية،  أثرت على البينة الاجتماعية والاقتصادية نتيجة سياسة الأرض المحروقة وسلب العقار بصيغ مختلفة، ناهيك عن حصيلة الضحايا التي ما فتئت ترتفع وسط السكان العزل بالخصوص في مثلث الظهرة والونشريس وفليتا، فلم تسلم  قبائل المنطقة التي طبقت عليها كل أشكال القمع والقهر بما في ذلك القوانين الزجرية لتحقيق  الأهداف الكولونيالية ، وطبيعي  جدا ردة فعل القبائل القوية بالمقاومة الفردية و الجماعية كلما سنحت الفرص بذلك  خلال التوغل الاستعماري،  مما تسبب في إعاقة المشاريع الكولونيالية التوسعية في المنطقة خلال فترات متقطعة، ولمّا أدركت السلطات الاستعمارية أنّ القبائل هي ذخيرة الانتفاضات في منطقتي مينا وسهل الشلف وضعت استراتجية استهدفت تضييق الخناق عليها وفق منطق التخويف لأجل التطويع  وإفلاسهم اقتصاديا وماليا،  لإضعافهم على المدى البعيد حتى يتسنى لها القضاء على الانتفاضات وتنفيذ المشاريع الاستيطانية، الأهداف التي تكررت  في رسائل القادة العسكريين والمدنيين خلال كل الحكومات الفرنسية  المتعاقبة طالبين من قادتهم تجسيدها  وهو ما يجعلنا نجزم بالمسؤولية التاريخية عن تلك الممارسات البربرية الملقاة على عاتق فرنسا ككيان سياسي وكدولــــة.